11 سبتمبر 2024
الجزائر وفرنسا... الأزمة المكتومة
أثار إخضاع الشرطة الفرنسية وزير الإعلام الجزائري، حميد قرين، للتفتيش الجسدي وإخضاع أمتعته لتفتيش بالماسح الضوئي، في مطار أورلي في باريس، على الرغم من حمله جواز سفر دبلوماسي، زوبعة إعلامية ودبلوماسية غير مسبوقة. استدعت وزارة الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي في الجزائر، بيرنار إيمي، احتجاجاً على تعرض الوزير لذلك التفتيش الجسدي في المطار الباريسي في أثناء مغادرته عائدًا إلى بلاده، ثم وصفت الخارجية الفرنسية الأمر بأنه حادثة مؤسفة، وقالت إن السلطات الفرنسية "تعمل من أجل عدم تكرارها". ولكن، ألم يسبق لوزراء جزائريين عدة أن تعرّضوا إلى مثل هذا التفتيش التي تعرض له قرين. وما الذي استجد حتى ترفع وزارة الخارجية الجزائرية صوتها، هذه المرة، لتعبر عن عدم قبولها هذا التصرف بحق وزير جزائري، يحمل جواز سفر دبلوماسياً، وهي التي اعتادت على السكوت في مرات سابقة مماثلة لهذه القضية. وقد ذكّر مدير التشريفات في وزارة الخارجية الجزائرية، وفي استيائه من المعاملة غير المقبولة مع الوزير، السفير الفرنسي بأن الحادثة ليست الأولى من نوعها، وقد سُجلت حالتان مشابهتان لها سابقًا، فجاء الاعتراف، أخيراً وضمنياً، من هيئة رسمية بحدوث مثل هذا الأمر سابقاً، وهو ما تحدثت عنه الصحافة الجزائرية يوم وقوعه، وسكتت عنه الخارجية الجزائرية دوماً.
كتبت صحف، في وقت سابق، أن وزيري السكن والصناعة، عبد المجيد تبون وعبد السلام بوشوارب، خضعا لتفتيش جسدي لدى عبورهما في مطار باريس، في أثناء عودتهما من مهمة حكومية في الصين، ولم ترفع السلطات الجزائرية يومها احتجاجا إلى الفرنسيين بذلك. وكتبت صحف جزائرية عن تعرّض وزيرة الثقافة السابقة، خليدة تومي، للتفتيش، في أثناء توليها الوزارة، للتفتيش الجسدي في مطار شارل ديغول.
تبدو ردة الفعل الجزائرية الغاضبة، هذه المرة، كأنها قطيعة مع حالات سكوت "بإيعاز" من أهل السلطة، في مرات سابقة كانت ترمي إلى مداهنة الطرف الفرنسي، وتفويت "حالة الأمر الواقع" التي يتعرض لها مسؤولون جزائريون في مختلف المستويات في المطارات الفرنسية، تحقيقا لمنافع شخصية ضيقة، يستفيد منها متنفذون في السلطة الجزائرية، خصوصاً أن عددا من المسؤولين الجزائريين يزورون فرنسا دورياً، وحتى أسبوعياً، ومنهم من يحوز بطاقات إقامة مؤقتة أو دائمة، ومنهم من يحوز أملاكاً وبيوتاً ومؤسسات هناك. وهو ما أدى بمسؤول في الحزب اليميني الفرنسي إلى التصريح إلى إذاعة "أروب 1"، معلقا على قضية "إهانة" وزير الإعلام الجزائري في مطار في فرنسا "على المسؤولين الجزائريين أن يحترموا بلدهم، إذا أرادوا أن لا يهينهم أحد بأسلوب غير حضاري". وقال "وزراء الجزائر يقضون معظم وقتهم في أوروبا، وخصوصاً باريس أكثر من الوقت الذي يقضونه في بلادهم ومكان عملهم". وراح المتحدث نفسه يسخر قائلاً "يأتون إلى فرنسا في الأسبوع مرتين أو ثلاثاً، وهذا ما أدهش الطبقة السياسية الفرنسية، كيف للدولة الجزائرية أن تتحمل مصاريف الوزراء وتحركاتهم التي لا علاقة لها بالعمل".
أثار المسؤول الفرنسي قضية جديرة بالاهتمام بقوله "إن من الطبيعي أن تثير زيارات أي
مسؤول المتكررة لفرنسا تحت غطاء جواز السفر الدبلوماسي الشكوك لدى عناصر الأمن في مطارات أي دولة"، ولا سيما إذا عرفنا أن معظم الزيارات خاصة، ولكم أن تتساءلوا عن مصدر أموال المسؤولين الجزائريين الذين يشترون عقارات في عواصم أوروبية بملايين الدولارات؟
ويتحدث صحافيون جزائريون عن تحويلات مالية ضخمة، تتم باستغلال الجواز الدبلوماسي والقاعات الشرفية الرسمية في مطار الجزائر وباريس، وأن حادثة أخيرة اكتشف من خلالها أن ابنة مسؤول كبير في الدولة الجزائرية استغلت هذه الطريق، لتمرير مليوني يورو من الجزائر إلى فرنسا، 200 ألف منها أوراق مزورة. فهل بعد هذا نطلب من السلطات الفرنسية غض البصر عن ممارسات مشينة، من شأنها الإضرار بالأمن الفرنسي واقتصاده.
بذلك، قطعت جهيزة قول كل خطيب، فمثل هذه الزيارات الدائمة التي تحولت بفعل تكرارها إلى ما يشبه إقامة دائمة في فرنسا وزيارات متقطعة إلى الجزائر، تُشكل أيضاً صداعاً مستديماً للأمن الفرنسي الذي يضطر إلى تأمين هؤلاء المسؤولين، كما أنه يضيف أعباء مالية أخرى على كاهل دافعي الضرائب الفرنسيين، هم في غنى عنها، ولا تعنيهم لا من بعيد ولا من قريب.
تبدو العلاقة الجزائرية الفرنسية متفردة لامثيل لها، فبعض الجزائريين يتودّدون إلى فرنسا صبح مساء، يشربون ماءها زلالاً، ويأكلون خبزها طرياً حقيقة لا مجازا، يقتنون منتوجاتها ويتكلمون لغتها ويتشربون ثقافتها. في المقابل، يحبس بعض الخطاب الرسمي الجزائري نفسه عمداً في بعض الأحيان، في فكر ثوري يستدعيه عند الحاجة، ليسقطه على راهن العلاقات بين البلدين، في محاولة منه لاستجلاب "وطنية" قديمة، يحتاجها عندما تترهل حججه في تعبئة داخلية للرأي العام، خصوصاً في أثناء الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية والرئاسية، أو عندما يدعي زعماً المحافظة على صفحة التاريخ لا تمزيقها، فالعلاقات الجزائرية الفرنسية ما زالت موسومة بحالات من المد والجزر، وفرنسا لم تستطع بعد أن تتنصل من تاريخها الاستعماري في علاقاتها مع الجزائر، ففي سنة 2003، صوت البرلمان الفرنسي على قانون يمجّد الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي تجاوز 130عاماً. ويتحدث عن صنائعه بإيجابية، ليسقط بذلك في الماء كل المطالبات الجزائرية (الشعبية خصوصاً) من فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاستعماري، اعتذار معنوي ليس إلا، يراه الجزائريون ضرورياً لبناء علاقات سوية بين البلدين. تنغّصها بعض تصريحات كبار المسؤولين الفرنسيين، وآخرهم الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، الذي تلفظ، قبل نحو شهر، بكلام مشين في حق الشعب الجزائري، وبضرورة مراجعة اتفاقيات إيفيان التي مهدت لاستقلال الجزائر.
وعلى الرغم من التصريحات السياسية "الطيبة" التي يطلقها بين فينة وأخرى مسؤولون
فرنسيون آخرون، خصوصاً في السنوات الأخيرة، ولا سيما في ولاية فرانسوا هولاند، إلا أن ذلك يعتبر لدى مراقبين كثيرين اجتهاداً براغماتياً، تحاول النخبة الفرنسية فيه تعويض ما فاتها من مكاسب اقتصادية ومالية، فوتتها في عهود سابقة، بردت فيها العلاقات بين فرنسا والجزائر، وتركت من خلالها فرنسا الفرصة لغيرها من الدول، مثل الصين وكوريا والولايات المتحدة، وحتى بريطانيا وألمانيا، وهم شركاء غير تقليديين للجزائر.
اجتهاد فرنسا، هذه الأيام، للعودة القوية إلى الجزائر واضح وبيّن، ومساعيها الاقتصادية مكثفة لدى صناع القرار في الضفة الجنوبية للمتوسط، تقودها ثلة من أصحاب المال والأعمال. كما أن فرنسا فقدت كثيراً من تأثيرها الثقافي في الجزائر، بما تشهده اللغة الفرنسية من تراجع حاد في المنظومة التربوية الجزائرية، ولدى الأجيال الجديدة عربية اللسان، وفي الفعل الثقافي والإعلامي العام الذي ابتعد عن اللغة الفرنسية أشواطا كبيرة، وإنْ ما زال بعض حراس المعبد الفرنكفوني واقفين بالمرصاد لكل خطاب يغاير نهجهم في التفكير والتأثير. وما حضور فرنسا في معرض الكتاب السنوي في الجزائر بصفتها ضيف شرف، بطلب منها كما قال الكاتب والوزير الأسبق، محيي الدين عميمور، إلا تعبيراً عن رغبتها في إعادة إحياء أمجاد الثقافة الفرنسية في المجتمع الجزائري الذي أخذته العالمية بعيداً عن الفرنسية.
يبدو لبعض سليطي اللسان أن السلطات الفرنسية، ومن خلال تفتيش مسؤولين جزائريين في مطاراتها، تريد، كما يقولون، "أن تختبر تلاميذها أحياناً في امتحانات صغيرة، لترى رد فعلهم". وهو ما يفسر حالة التشفي الواسعة لقضية الوزير قرين، والتي اكتظت بها وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن الأمر لا يعني عموم الجزائريين، ولا سيادة الدولة الجزائرية، ويتمنون في قرارة أنفسهم أن يخضع أصحاب الحظوة من الساسة والكوادر العليا لما يتعرض له عامة الشعب من تفتيش بوليسي دقيق في مطاراتنا قبل مطارات الغير. وأن يذوقوا من الكأس نفسه التي يتجرّعها عامة الناس يومياً، في مطارات الجزائر، والتي لا تحفل بهم ولا تستقبلهم إلا متهمين مفترضين، حيث يخضعون لكل أنواع التفتيش الممكنة، وبأساليب أقل ما يقال عنها إنها متخلفة.
في مقابل هذا الرأي السائد، تنتفض أصوات أخرى، وتنبه الجميع إلى أن المسألة لا تتعلق بفرد واحد أو أفراد أو وزير واحد أو مسؤولين، وإنما بسيادة بلد وكرامة أمة، فالذي يحمل جوازاً دبلوماسيا يمثل الجزائر أولاً، ولا يمثل نفسه. ويطالب هؤلاء السلطات الرسمية لبلدهم اتخاذ ما يسمونها في العرف الدبلوماسي "المعاملة بالمثل". ويرتقب أن تنفذ هذا المبدأ مع أعضاء الحكومة الفرنسية، عندما ينزلون في أي مطار في الجزائر، غير أن الأمر هذا يبدو غير واقعي في بلد تآكل فيه الاعتزاز بالوطنية بفعل ممارسات سلطةٍ، لا تستمد قوتها من الشعب، وبفعل عوامل التعرية الانتخابية المزورة.
سئل الإعلامي والمنتج التلفزيوني سليمان بخليلي، حين سأله متعاطفون مع الوزير حميد قرين: لو كنتَ أنتَ الوزير قرين ماذا كنتَ ستفعل؟ أجاب: كنت سأقول لمن جاءوا لتفتيشي: ألغيتُ سفري، وأعتصم بسفارة الجزائر (باعتبارها دبلوماسياً أرضاً جزائرية ترفع العلم الجزائري)، ولن أعود إلا بعد صدور اعتذار من الحكومة الفرنسية، وأتعمد العودة من المطار نفسه، وأمر أمام الشرطة نفسها التي "حاولتْ" تعريتي.
لا تقوم الشرطة الفرنسية بأي إجراء أو تعنيف ضد من يرفض التفتيش، بل ترفع لافتة مكتوب عليها: لا يسمح للسفر لمن يرفض الخضوع لإجراءات التفتيش. وذلك معناه أن في وسعك أن تغادر المطار بكل حرية، في حال رفض تعريتك.
كتبت صحف، في وقت سابق، أن وزيري السكن والصناعة، عبد المجيد تبون وعبد السلام بوشوارب، خضعا لتفتيش جسدي لدى عبورهما في مطار باريس، في أثناء عودتهما من مهمة حكومية في الصين، ولم ترفع السلطات الجزائرية يومها احتجاجا إلى الفرنسيين بذلك. وكتبت صحف جزائرية عن تعرّض وزيرة الثقافة السابقة، خليدة تومي، للتفتيش، في أثناء توليها الوزارة، للتفتيش الجسدي في مطار شارل ديغول.
تبدو ردة الفعل الجزائرية الغاضبة، هذه المرة، كأنها قطيعة مع حالات سكوت "بإيعاز" من أهل السلطة، في مرات سابقة كانت ترمي إلى مداهنة الطرف الفرنسي، وتفويت "حالة الأمر الواقع" التي يتعرض لها مسؤولون جزائريون في مختلف المستويات في المطارات الفرنسية، تحقيقا لمنافع شخصية ضيقة، يستفيد منها متنفذون في السلطة الجزائرية، خصوصاً أن عددا من المسؤولين الجزائريين يزورون فرنسا دورياً، وحتى أسبوعياً، ومنهم من يحوز بطاقات إقامة مؤقتة أو دائمة، ومنهم من يحوز أملاكاً وبيوتاً ومؤسسات هناك. وهو ما أدى بمسؤول في الحزب اليميني الفرنسي إلى التصريح إلى إذاعة "أروب 1"، معلقا على قضية "إهانة" وزير الإعلام الجزائري في مطار في فرنسا "على المسؤولين الجزائريين أن يحترموا بلدهم، إذا أرادوا أن لا يهينهم أحد بأسلوب غير حضاري". وقال "وزراء الجزائر يقضون معظم وقتهم في أوروبا، وخصوصاً باريس أكثر من الوقت الذي يقضونه في بلادهم ومكان عملهم". وراح المتحدث نفسه يسخر قائلاً "يأتون إلى فرنسا في الأسبوع مرتين أو ثلاثاً، وهذا ما أدهش الطبقة السياسية الفرنسية، كيف للدولة الجزائرية أن تتحمل مصاريف الوزراء وتحركاتهم التي لا علاقة لها بالعمل".
أثار المسؤول الفرنسي قضية جديرة بالاهتمام بقوله "إن من الطبيعي أن تثير زيارات أي
ويتحدث صحافيون جزائريون عن تحويلات مالية ضخمة، تتم باستغلال الجواز الدبلوماسي والقاعات الشرفية الرسمية في مطار الجزائر وباريس، وأن حادثة أخيرة اكتشف من خلالها أن ابنة مسؤول كبير في الدولة الجزائرية استغلت هذه الطريق، لتمرير مليوني يورو من الجزائر إلى فرنسا، 200 ألف منها أوراق مزورة. فهل بعد هذا نطلب من السلطات الفرنسية غض البصر عن ممارسات مشينة، من شأنها الإضرار بالأمن الفرنسي واقتصاده.
بذلك، قطعت جهيزة قول كل خطيب، فمثل هذه الزيارات الدائمة التي تحولت بفعل تكرارها إلى ما يشبه إقامة دائمة في فرنسا وزيارات متقطعة إلى الجزائر، تُشكل أيضاً صداعاً مستديماً للأمن الفرنسي الذي يضطر إلى تأمين هؤلاء المسؤولين، كما أنه يضيف أعباء مالية أخرى على كاهل دافعي الضرائب الفرنسيين، هم في غنى عنها، ولا تعنيهم لا من بعيد ولا من قريب.
تبدو العلاقة الجزائرية الفرنسية متفردة لامثيل لها، فبعض الجزائريين يتودّدون إلى فرنسا صبح مساء، يشربون ماءها زلالاً، ويأكلون خبزها طرياً حقيقة لا مجازا، يقتنون منتوجاتها ويتكلمون لغتها ويتشربون ثقافتها. في المقابل، يحبس بعض الخطاب الرسمي الجزائري نفسه عمداً في بعض الأحيان، في فكر ثوري يستدعيه عند الحاجة، ليسقطه على راهن العلاقات بين البلدين، في محاولة منه لاستجلاب "وطنية" قديمة، يحتاجها عندما تترهل حججه في تعبئة داخلية للرأي العام، خصوصاً في أثناء الاستحقاقات الانتخابية البرلمانية والرئاسية، أو عندما يدعي زعماً المحافظة على صفحة التاريخ لا تمزيقها، فالعلاقات الجزائرية الفرنسية ما زالت موسومة بحالات من المد والجزر، وفرنسا لم تستطع بعد أن تتنصل من تاريخها الاستعماري في علاقاتها مع الجزائر، ففي سنة 2003، صوت البرلمان الفرنسي على قانون يمجّد الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي تجاوز 130عاماً. ويتحدث عن صنائعه بإيجابية، ليسقط بذلك في الماء كل المطالبات الجزائرية (الشعبية خصوصاً) من فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاستعماري، اعتذار معنوي ليس إلا، يراه الجزائريون ضرورياً لبناء علاقات سوية بين البلدين. تنغّصها بعض تصريحات كبار المسؤولين الفرنسيين، وآخرهم الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، الذي تلفظ، قبل نحو شهر، بكلام مشين في حق الشعب الجزائري، وبضرورة مراجعة اتفاقيات إيفيان التي مهدت لاستقلال الجزائر.
وعلى الرغم من التصريحات السياسية "الطيبة" التي يطلقها بين فينة وأخرى مسؤولون
اجتهاد فرنسا، هذه الأيام، للعودة القوية إلى الجزائر واضح وبيّن، ومساعيها الاقتصادية مكثفة لدى صناع القرار في الضفة الجنوبية للمتوسط، تقودها ثلة من أصحاب المال والأعمال. كما أن فرنسا فقدت كثيراً من تأثيرها الثقافي في الجزائر، بما تشهده اللغة الفرنسية من تراجع حاد في المنظومة التربوية الجزائرية، ولدى الأجيال الجديدة عربية اللسان، وفي الفعل الثقافي والإعلامي العام الذي ابتعد عن اللغة الفرنسية أشواطا كبيرة، وإنْ ما زال بعض حراس المعبد الفرنكفوني واقفين بالمرصاد لكل خطاب يغاير نهجهم في التفكير والتأثير. وما حضور فرنسا في معرض الكتاب السنوي في الجزائر بصفتها ضيف شرف، بطلب منها كما قال الكاتب والوزير الأسبق، محيي الدين عميمور، إلا تعبيراً عن رغبتها في إعادة إحياء أمجاد الثقافة الفرنسية في المجتمع الجزائري الذي أخذته العالمية بعيداً عن الفرنسية.
يبدو لبعض سليطي اللسان أن السلطات الفرنسية، ومن خلال تفتيش مسؤولين جزائريين في مطاراتها، تريد، كما يقولون، "أن تختبر تلاميذها أحياناً في امتحانات صغيرة، لترى رد فعلهم". وهو ما يفسر حالة التشفي الواسعة لقضية الوزير قرين، والتي اكتظت بها وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن الأمر لا يعني عموم الجزائريين، ولا سيادة الدولة الجزائرية، ويتمنون في قرارة أنفسهم أن يخضع أصحاب الحظوة من الساسة والكوادر العليا لما يتعرض له عامة الشعب من تفتيش بوليسي دقيق في مطاراتنا قبل مطارات الغير. وأن يذوقوا من الكأس نفسه التي يتجرّعها عامة الناس يومياً، في مطارات الجزائر، والتي لا تحفل بهم ولا تستقبلهم إلا متهمين مفترضين، حيث يخضعون لكل أنواع التفتيش الممكنة، وبأساليب أقل ما يقال عنها إنها متخلفة.
في مقابل هذا الرأي السائد، تنتفض أصوات أخرى، وتنبه الجميع إلى أن المسألة لا تتعلق بفرد واحد أو أفراد أو وزير واحد أو مسؤولين، وإنما بسيادة بلد وكرامة أمة، فالذي يحمل جوازاً دبلوماسيا يمثل الجزائر أولاً، ولا يمثل نفسه. ويطالب هؤلاء السلطات الرسمية لبلدهم اتخاذ ما يسمونها في العرف الدبلوماسي "المعاملة بالمثل". ويرتقب أن تنفذ هذا المبدأ مع أعضاء الحكومة الفرنسية، عندما ينزلون في أي مطار في الجزائر، غير أن الأمر هذا يبدو غير واقعي في بلد تآكل فيه الاعتزاز بالوطنية بفعل ممارسات سلطةٍ، لا تستمد قوتها من الشعب، وبفعل عوامل التعرية الانتخابية المزورة.
سئل الإعلامي والمنتج التلفزيوني سليمان بخليلي، حين سأله متعاطفون مع الوزير حميد قرين: لو كنتَ أنتَ الوزير قرين ماذا كنتَ ستفعل؟ أجاب: كنت سأقول لمن جاءوا لتفتيشي: ألغيتُ سفري، وأعتصم بسفارة الجزائر (باعتبارها دبلوماسياً أرضاً جزائرية ترفع العلم الجزائري)، ولن أعود إلا بعد صدور اعتذار من الحكومة الفرنسية، وأتعمد العودة من المطار نفسه، وأمر أمام الشرطة نفسها التي "حاولتْ" تعريتي.
لا تقوم الشرطة الفرنسية بأي إجراء أو تعنيف ضد من يرفض التفتيش، بل ترفع لافتة مكتوب عليها: لا يسمح للسفر لمن يرفض الخضوع لإجراءات التفتيش. وذلك معناه أن في وسعك أن تغادر المطار بكل حرية، في حال رفض تعريتك.