على مشارف الشهر السادس من التظاهرات الشعبية التي بدأت في 22 فبراير/شباط الماضي، ما زال الانسداد السياسي سيد الموقف في الجزائر، إذ لم يتقدم الحوار السياسي خطوة ولم يتراجع الحراك الشعبي خطوة عن مطالبه. وفيما يتجه الحراك إلى تصعيد موقفه والتهديد باستخدام الاضرابات والعصيان المدني، تبدو السلطة السياسية والجيش بصدد محاولة استخدام هيئة الحوار كجدار صد وجبهة مواجهة مع القوى السياسية والمدنية، وتحميلها مسؤولية صياغة التفاهمات التي تفتح الباب أمام إجراء انتخابات.
ولم تكن فكرة استخدام الحراك الشعبي للعصيان المدني والتلويح به من قبل الحراك الشعبي وليدة التطورات الراهنة، واستمرار حالة انسداد المشهد وتهرب السلطة والجيش من الاستجابة للمطالب الشعبية، لكن الفكرة طرحت منذ بداية الحراك، وحاولت عدة نقابات تنفيذها في مارس/آذار الماضي، لكن كوادر الحراك الشعبي رأت أن الأمر غير مناسب على اعتبار أن التظاهرات كوسيلة كانت كافية لتحقيق مطالب إلغاء الانتخابات، ومنع مشروع العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة حينها، قبل أن يتم طرح فكرة العصيان المدني مجدداً.
لكن التحول الحاصل أن العصيان المدني، انتقل هذه المرة من فكرة نقابية إلى شعار بدأ يتخذ موقعه ضمن الشعارات المركزية لتظاهرات الحراك الشعبي في كثير من المدن الجزائرية، خصوصاً في العاصمة. وفي السياق، أكد المحلل السياسي والناشط محمد ايوانوغان، لـ"العربي الجديد"، أن "فكرة العصيان المدني كانت حاضرة كفكرة منذ بداية الحراك في فبراير الماضي، لكنها أصبحت، للمرة الأولى، شعاراً يرفع في المسيرات"، معرباً عن اعتقاده أنه "من السابق لأوانه الحديث عن مدى تبني الحراك الشعبي الفكرة. لكن إذا تبناها لن يوقفه أحد، مهما كانت التحذيرات". وأشار ايوانوغان إلى أن "هناك مخاوف جدية من أن عدم استجابة السلطة للمطالب، واستمرارها في التهرب من الاستحقاقات التي يطالب بها الشعب، والاخفاق الواضح في تشكيل هيئة حوار تمثيلية ووازنة، قد يولد حالة من الإحباط، ما سيأخذ الحراك باتجاه أشكال تمرد أخرى، برغم أن الحراك أثبت وعياً كبيراً حتى الآن". وأوضح أنه في الوقت الحالي "هناك بعض التخوف من أن تكون الفكرة، أو الدفع إليها، من إنتاج مخابر السلطة لتبرير حالة الطوارئ مثلاً أو أية إجراءات لاحقة، لكن عملياً نحن في حالة عصيان مدني منذ 22 فبراير، والحراك الآن أصبح مستعداً للتصعيد من لهجته، وقد نشهد إضرابات أكبر من تلك التي شهدناها في الأشهر الماضية".
لكن فكرة العصيان المدني لا تلق إجماعاً في الوقت الحالي، حيث لم يتم تداولها على الصعيد السياسي ومن قبل النقابات والقوى الفاعلة على الساحة، خصوصاً أن فكرة العصيان المدني ترتبط في الجزائر بأحداث دامية جرت في يونيو/حزيران 1991، إذ شهدت البلاد حينها تجربة لأول عصيان مدني، نفذته الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي حلت بعد ذلك في مارس/آذار 1992، للمطالبة باستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد حينها. لكن ذلك العصيان الذي أخذ أبعاداً عنيفة، بتدبير من القيادي في الجبهة السعيد مخلوفي، خلف آثاراً سيئة لدى الجزائريين، خصوصاً أنه حمل مؤشرات عديدة على التوجه نحو خيار العنف والعنف المضاد في تلك الفترة.
ويعتقد المتابعون لتطور منحى الحراك الشعبي والأحداث في الجزائر أن أكبر فشل تواجهه السلطة الآن، لا يتعلق فقط بالإخفاق في إقناع القوى السياسية والمدنية بالحوار مع هيئة الحوار والقبول بخريطة الطريق التي طرحها الجيش، لكن أيضاً بفشل رهانها على استنزاف الحراك في فصل الصيف والعطل، ودفع الجزائريين إلى إنهاء التظاهرات والعودة إلى بيوتهم، واستخدام جهاز الدعاية والتضليل باتجاه ذلك. ويبدو أن الحراك الشعبي كسب معركة الاستنزاف بعدما انقضى الصيف تقريباً ولم تتوقف التظاهرات على بعد أقل من شهر من عودة الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم وعودة الموظفين من العطل. وتصب هذه العودة في صالح الحراك الشعبي، إذ ستوفر له أدوات ضغط إضافية، عبر استخدام الإضراب في القطاعات الحيوية، كالتعليم والصحة والنقل والإدارات وغيرها.
ويرتبط توجه الحراك الشعبي بتنفيذ خيارات التصعيد، الإضرابات أو العصيان، بما سيتحقق سياسياً على صعيد تقدم الحوار، ومدى مراجعة السلطة لمواقفها إزاء مطالب وإجراءات التهدئة، خصوصاً أن شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول المقبلين سيكونان حاسمين على الجبهة الاجتماعية والسياسية، خصوصاً وأن الوقت يضيع من رصيد السلطة التي لم تستطع حتى الآن تهيئة أي شيء لتنظيم الانتخابات الرئاسية المقبلة، بالإضافة إلى بروز مؤشرات صراع غير معلن بين رئيس الدولة عبد القادر بن صالح وقائد أركان الجيش أحمد قايد صالح على خلفية تباين المواقف إزاء تنفيذ إجراءات التهدئة، التي وافق عليها بن صالح خلال لقائه بفريق هيئة الحوار الوطني، ورفضها بشكل حاد قايد صالح.
وعند هذا الانسداد والوضع المعقد، تبدو هيئة الحوار الوطني الحصان الوحيد الذي تدفع به السلطة إلى الحلبة لمواجهة المطالبات الشعبية والسياسية، برغم أنها حرمتها من مكاسب ومنجزات تمهيدية كان يمكن أن تعزز موقعها وموقفها أمام الرأي العام والقوى المدنية والسياسية، بعد رفض تنفيذ إجراءات تهدئة طالبت بها، وهو ما يصعب من مهمة الهيئة، التي استقال عضوين من أعضائها. لكن عضو هيئة الحوار الوطني عبد الوهاب بن جلول اعتبر أن استمرار الهيئة، تحت أية ظروف، ضرورة سياسية لمنع أية تطورات، تدفع إليها أطراف، ولا تصب في مصلحة الجزائر. وقال، لـ"العربي الجديد"، إن "إجراءات التهدئة أو الشروط التي أعلنتها الهيئة ستكون ضمن مخرجات الحوار. هناك محاولات لكسر الهيئة لدفعها نحو الاستقالة. وقد أفشلنا هذه المحاولات، لأننا نعتبر أن وجود الهيئة، كإطار للحوار المؤدي إلى الحل السياسي، ضروري، وقد قررنا الشروع في الحوار بدءاً من الأحد". ورداً على سؤال حول تأثير استقالة عضوين على عمل الهيئة ومصداقيتها، قال بن جلول إن "هناك شخصيات أخرى، لا تقل عن خمسة، سيتم الإعلان عن أسمائهم لاحقاً، التحقت بالهيئة قناعة منها بضرورة الحوار". وتلوح السلطة بحوار على طريقتها، فيما يلوح الحراك بالعصيان المدني من جانبه، فيما ينظر الجزائريون إلى ما أنجزه الحراك الشعبي في السودان، ويطمحون إلى تحقيق إنجاز مماثل، برغم الفارق في التطورات ومنتهى السلمية التي ميزت الحراك في الجزائر، مقارنة مع بعض المشاهد الدامية في السودان. غير أن استمرار حالة الانسداد ونجاح الحراك الشعبي في تجاوز فخ الاستنزاف وقرب موعد عودة الحراك الاجتماعي، يفتح أفق المشهد الجزائري على احتمالات عديدة.