من المسلمات السياسية أن ندوات "التوافق" و"الوفاق" و"الإجماع" تعقد في حالات الفراغ والأزمات والانسداد وإخفاق المؤسسة الدستورية في احتواء وضع أو أزمة أو استباق مآل سياسي خطير. الدعوة الأخيرة في الجزائر من قبل أحزاب السلطة إلى عقد ندوة للحوار الوطني بعناوين مختلفة، إجماع أو وفاق وطني، وإرجاء الانتخابات الرئاسية لسنة أو سنتين، ليست فقط إقراراً بوجود فراغ سياسي ووضع غير طبيعي، واعترافاً بإخفاق المؤسسة الدستورية وعدم قدرة الانتخابات (المشوبة بالتزوير في الحالة الجزائرية) على إنتاج الحل أو تجاوز المعضلات السياسية، لكنه أيضاً نسف لعقود من الدعاية بتحقيق الجزائر، في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، للاستقرار المؤسساتي واحترام مواعيد الاستحقاقات الانتخابية وتركيز الديمقراطية.
ثمة ملاحظة لافتة، أن الحزب الشريك في الحكومة (تجمع أمل الجزائر)، والذي تكفل بمهمة الدعوة إلى ندوة وفاق وطني وإرجاء الانتخابات حتى تحقيق إجماع وطني على مخرجات سياسية للمرحلة المقبلة، غير موقفه إلى هذا المنحى في السابع من ديسمبر/كانون الأول الحالي، بينما كان مطلع الشهر يعترض بشدة على مطلب تقدم به حزب معارض لتأجيل الانتخابات، ورفض حديث قوى المعارضة عن مبادرات توافق سياسي، وقدّر أن البلاد ليست بصدد أزمة سياسية. في الغالب فإن أدوات التفكير والتحليل السياسي لهذا الحزب، كما مجمل أحزاب السلطة، والتي تتمحور حول شخص بوتفليقة وسياساته ونجاحاته، لا تسمح بالتجرؤ على إطلاق مبادرات سياسية كهذه، من دون أن تعطي الرئاسة والمؤسسة الحاكمة إشارة لهذه الأحزاب. كما لا يمكن إغفال أن إطلاق فكرة ندوة وفاق وطني وإرجاء الانتخابات جزء من مجموعة سيناريوهات محتملة ومعدة للتنفيذ حسب السياقات التي تتوفر.
قد تختلف السياقات، لكن ما يطرح راهناً في الجزائر، يكرر نفس سيناريو ندوة الوفاق الوطني، التي نظّمتها السلطة في يناير/كانون الثاني 1994، كمخرج لوضع غير دستوري أفرزته سياسة الأمر الواقع التي نفذها الجيش في يناير/كانون الثاني 1992، وإطار انتقالي لتمديد حالة غير شرعية وغير طبيعية أفرزتها التجاوزات الدستورية، ومنصة لتزكية وزير الدفاع حينها، ليامين زروال رئيساً قبل العودة إلى المسار الانتخابي في انتخابات الرئاسة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1995. وتشترك تلك المرحلة التي أفضت إلى ندوة الوفاق الوطني والمرحلة الراهنة، في وجود أكثر من مشهد قفزت فيه السلطة الحاكمة، بكل المكابرة الممكنة، على الدستور نصاً وروحاً، إذ كانت المؤسسة الرئاسية حينها في وضع غير دستوري، كما هو وضعها حالياً، لكنهما تشتركان أيضاً في أنه لم تتغير لدى السلطة (برغم تغير رموزها) لا أدوات الهندسة السياسية ولا ميكانيكية تركيب الحل، والمعضلة نفسها والحل كذلك.