حين شرعت فرقة "أصوات الصين" بقيادة يانغ كينغ في تقديم وصلاتها، مفتتحةً "المهرجان الدولي للموسيقى الأندلسية والموسيقى العتيقة" (انطلق يوم 20 كانون الأول/ ديسمبر ويستمر حتى 29 منه) في الجزائر العاصمة، شرعت الأسماع والأرواح تُهيئ نفسها لزمنٍ حضر على شكل أنغام اختلفت أصولها (إسبانيا والصين وتركيا وتونس والمغرب) والتقت في شغف الإنسان وهو يحاول أن يسمو على ترابه.
المهرجان الذي تأسس عام 2005، بات فضاءً حاضناً لهذه الموسيقى الموروثة من الزمن الأندلسي، التي انتقلت إلى شمال أفريقيا مع الأسر الأندلسية النازحة إليه، بعد سقوط غرناطة عام 1492. ومثلما اختلفت لهجات وأزياء وطقوس هذه الأسر، باختلاف الحواضر التي نزلت بها، فقد اختلفت الموسيقى الأندلسية، وتحولت إلى مدارس متباينة.
تعدّ الموشحات والأزجال الموروثة عن ذلك الزمن هي المادة النصية التي تعتمد عليها الموسيقى الأندلسية، ونادراً ما تلجأ الفرق المتخصصة فيها اليوم إلى نصوص معاصرة، تماماً كما حافظت على التقسيم الموروث للوصلة (تسمى نوبة، عددها 24 نوبة بحسب عدد ساعات اليوم، ولم تبق منها إلا 11 نوبة لعدم تدوينها).
من النوبات الضائعة نوبة "الزوركند" و"غريبة الحسين" و"الحجاز الصغير". ومما بقي محفوظاً نوبة "الماية" و"الرصد" و"العشاق". تنقسم النوبة إلى خمسة أزمنة/عناصر، تلتزم الفرقة بأدائها كاملة هي "المصدّر" و"الدرج" و"البطايحي" و"الانصراف" و"المَخلص". في المغرب الأوسط/ الجزائر، انقسمت الموسيقى الأندلسية إلى ثلاث مدارس، هي مدرسة "الحوزي" في منطقة تلمسان، ومن أبرز شيوخها اليوم محمد الغافور، و"الصنعة" في الجزائر العاصمة، ويعد سيد أحمد سري أبرز من يمثلها من الأحياء، و"المالوف" في قسنطينة، والتي أعطاها الشيخ محمد الطاهر الفرقاني وعائلته صدى مختلفاً.
يسود انطباع في الشارع الجزائري، مفاده أن الموسيقى الأندلسية حكر من ناحية أدائها على الطبقات الأرستقراطية؛ لذلك هي تنتشر عادة في المدن التي احتضنت الأسر الأندلسية، منذ القرن الخامس عشر، مثل شرشال والقليعة ومليانة وتلمسان والبليدة وقسنطينة.
الفنان ناصر غفور يرى أنه انطباع طبيعي، بالنظر إلى أن روح المقاومة التي جاءت رداً على الاستعمار الفرنسي (1830 ـ 1962) جعلت كل منطقة من مناطق البلاد تنكمش على تعابيرها الفنية؛ حفاظاً عليها من الاندثار الذي كان هدف الآلة الاستعمارية. استمر هذا الواقع خلال العقود الأربعة التي تلت الاستقلال، لكنه اختلف اليوم، وفق غفور؛ إذ بتنا نجد فِرقاً تنشأ في مدن لم تعرف تاريخياً هذا الفن، مثل تيزي وزو كبرى مدن الأمازيغ، وبرج بوعريريج، بل إن بعضها نال الجوائز الأولى في المهرجانات المتخصصة.
وفي حديثه لـ "العربي الجديد"، وضّح صاحب "سعدي ليت البارح" أن الموسيقى الأندلسية تسمع في كل الجزائر، رغم موجة أغنية "الراي"، وتستقطب الجيل الجديد في جمعياتها المختلفة التي تشرف على تعليمها والحفاظ عليها، مثل "الغرناطية" و"الموصلية" و"الباشتارزية" و"المقام" و"العنادل".
من جهتها، لم تنف الفنانة بهجة رحال هذا التفاؤل، لكنها ألحّت على ضرورة التفكير جدّياً في سياسة وطنية للحفاظ على هذا الإرث الموسيقي الذي لم يعد جزائرياً/ مغاربياً فقط، بل هو إرث إنساني عمره قرون من الزمن. تقول: "صحيح أن الجمعيات تلعب دوراً في ممارسة الموسيقى الأندلسية وتعليمها، لكن هذا لا يكفي".
رحّال (1962) قالت إنها أصدرت منذ عام 1995 أكثر من عشرين ألبوماً، وهي تصر في السنوات الأخيرة على أن تكون ألبوماتها مرفقة بكتيبات تضم الأشعار المغناة، منها الكتيب الذي صدر مع أسطوانتها التي غنت فيها نوبة "المجنبة"، وقد ترجمه سعدان بن بابا علي إلى الفرنسية.