الجامعة إرترياً.. صورة عن النظام

30 أكتوبر 2014
يجبر النظام الإرتري الطلاب على التجنيد دون أمد محدد(Getty)
+ الخط -

دخل التعليم الحديث إلى إرتريا قبل نيل البلاد استقلالها بفترة طويلة، حيث عرفت مناطق المنخفضات الإرترية شكلاً من أشكال التعليم المدرسي الحديث في فترة الحكم الخديوي المصري، عبر ربط عدد من المدارس الابتدائية بالتعليم في الأزهر.

ومع دخول إرتريا عهد الاستعمار الأوروبي، شهدتْ البلاد شكلاً آخر من التعليم، فقد عمد الإيطاليون (1890-1941)، إلى إنشاء نظامين مختلفين، أحدهما خُصص لأبناء المستعمرين الإيطاليين، والآخر للسكان الأصليين. وفي حين كانت الدراسة في المدارس الإيطالية تنتهج أحدث وسائل التعليم، حرم الإرتريون من ذلك، واقتصرتْ الدراسة في مدارسهم على السنوات الأربع الأولى، مع بعض الاستثناءات للمتفوقين في مناطق معينة.

وحين جاء البريطانيون (1941-1952)، استمروا على نهج عزل الإرتريين في مدارس تخصص لهم، غير أنهم أدخلوا اللغة العربية والتغرنية في المرحلة الابتدائية، بناء على رغبة السكان، كما افتتحوا مدارس لتعليم الفتيات. لكن هذه "المكتسبات" بدّدها الاحتلال الإثيوبي (1952) الذي ألغى اللغة العربية والتغرنية، وهما لغتا سكان البلاد، وفرض لغته الأمهرنية.

ومع انطلاق الكفاح الإرتري المسلح (سبتمبر 1961)، لم تغفل التنظيمات كافة أهمية التعليم، فأنشأت كل من جبهة التحرير الإرترية وقوات التحرير الشعبية والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، مدارس ألحقتها بميادين القتال، قبل أن تستقر في المناطق المحررة وفي معسكرات اللاجئين في السودان. يُضاف إلى ذلك حرص التنظيمات على ابتعاث أعداد كبيرة من الطلاب الإرتريين إلى الدراسة في الخارج وخصوصاً لدى الدول العربية.

بعد نيل البلاد استقلالها (مايو 1991)، كانت العملية التعليمية تُمثّل أحد أهم التحديات التي تواجه الدولة الوليدة، وقد انتهجتْ الحكومة من أجل ذلك سياسات عدة أبرزها اعتماد التدريس في المرحلة الابتدائية باللغة الأم، (في إرتريا تسع لغات لتسع قوميات) وهو القرار الذي أثبت فشله بعد عشر سنوات من تطبيقه، ما جعل الحكومة تعدل عنه أخيراً، رغم أن الاعتراضات عليه جاءت منذ اليوم الأول، فقد رأى فيه المسلمون وسيلة لإضعاف اللغة العربية وتهميشها، حيث لا يدرس هذه اللغة بموجب القرار إلا قبيلة عربية هاجرت من الجزيرة العربية لا يزيد نسبة حضورها عن 3%.

هذا القرار لم يكن أسوأ ما اعترى العملية التعليمية في إرتريا، فقد أدى انتصار تنظيم الجبهة الشعبية على بقية الفصائل واستفراده بالسلطة إلى حقن المناهج بكم هائل من المواقف السياسية تجاه كل من اختلف مع التنظيم، وجاء ذلك على حساب المحتوى المعرفي والقيمي.

أما كادر التدريس فلم يكن أقلّ سوءاً، فقد شكّلته الحكومة من منتسبي الخدمة العسكرية، الذين يلجأون إلى التدريس هرباً من مشاقّ التجنيد، من دون أية خبرة سابقة. بينما تشكّل الكادر الإداري في المدارس من قدامى المحاربين الذين لا علاقة لهم بشيء خارج ميادين القتال.

جامعة أسمرا

تأسست الجامعة الوحيدة في البلاد قبل نحو خمسين عاماً، وكانت حينها تسمى "جامعة الأسرة المقدسة"، قبل أن تُغيّر اسمها إلى جامعة أسمرا. منذ التأسيس والجامعة ساحة تجاذبات عديدة. فكلما خضعت البلاد لسلطة جديدة سارعتْ إلى تغيير مناهجها وإدارتها العليا. حدث هذا مع الإيطاليين الذين اعتمدوا مناهج إيطالية، ثم الإثيوبيين الذين أدخلوا مناهجهم، وعينوا طاقماً إداريّاً تابعاً لهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمع التقدم العسكري الذي حققته الجبهة الشعبية واستيلائها على مدينة مصوع في عام 1990 قامت الحكومة الإثيوبية بتفكيك جامعة أسمرا ونقلها إلى داخل الأراضي الإثيوبية مستصحبة معها أعضاء إدارتها وممتلكاتها ووضعتها في منطقة نائية في جنوب إثيوبيا. ومع الاستقلال وإمساك تنظيم الجبهة الشعبية بزمام الأمور في البلاد، تحسّنت أوضاع الجامعة قليلاً، لكن ذلك لم يستمر طويلاً.

بداية التفكك

زادت الضغوط التي تمارسها حكومة الاستقلال على جامعة أسمرا، فقد غيرت شعارها ونظامها الأساسي الذي كان ينص على أنها مؤسسة أكاديمية مستقلة، ولم يتم استبداله بميثاق آخر، بل تبعته خطوات إجرائية أخرى كان أول ضحاياها مدير الجامعة الأول بعد الاستقلال، عندي برهان.

عيّنت الحكومة مديراً جديداً للجامعة، اشتهر بولائه التام لسياسات الجبهة الشعبية، فكانت أولى قراراته إلغاء نقابة أساتذة جامعة أسمرا، التي كانت منبراً يتم عبره اختيار مختلف إدارات الجامعة وتقييم أدائها. كما تم إقصاء الكثيرين من رؤساء الأقسام ومختلف الإدارات الجامعية واستبدالهم بموالين يفتقرون إلى الخبرة والمستوى العلمي.

زاد الأمر سوءاً حين عمدت الحكومة إلى تنفيذ حملة اعتقالات بين الأساتذة الرافضين لسياستها، وجنحت أحياناً إلى التصفية الجسدية ضد من عرفوا بانتقادهم العلني للسياسات التي كانت تمارس في الجامعة.

المسمار الأخير

لكنّ القطرة التي أفاضتْ الكأس كانت وقوف طلاب جامعة أسمرا إلى جانب الحركة الإصلاحية (2001)، التي طالبتْ بتفعيل الدستور وإجراء انتخابات رئاسية. وفي مقابل ذلك قررت الحكومة إجبار الطلاب على العمل الطوعي في التشجير وتعبيد الطرق لصرفهم عن الانشغال بقضايا السياسة، غير أن ذلك وُوجه برفض شديد من الطلاب، واشتعلتْ المظاهرات المؤيدة لأعضاء الحركة الإصلاحية الذين زجّ بهم النظام في المعتقلات.

أمام هذا التطور نفّذت السلطات حملات دهم واعتقالات في المدينة الجامعية وفي سكن الطلاب، وتم القبض على نحو ألف طالب تم إرسالهم إلى معتقل "ويعا" جنوب مدينة مصوع في درجة حرارة اقتربت من الخمسين مئوية، وعذبوا فأدى ذلك إلى وفاة كثيرين.

منذ تلك الأحداث بات جليّاً للجبهة الشعبية أن استمرارية جامعة أسمرا بالشكل الذي كانت عليه أصبح خطراً على توجهاتها السياسية، ولهذا قرّرت إيقاف نشاط الجامعة، وهو القرار الذي تم تنفيذه تدريجيّاً. حيث تم تقديم مرحلة التدريب العسكري على المرحلة الجامعية، وأصبح الطلاب يدرسون السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية في معسكرات الخدمة الإلزامية، قبل أن يتم إيقاف قبول الطلاب في الجامعة نهائيّاً في عام 2003-2004. كانت نتيجة هذه القرارات شل عمل الجامعة، وهروب المئات من طلابها وأساتذتها بما فيهم مدير الجامعة، ليتوقف عمل الجامعة نهائيا عام 2005.

ولجأت الحكومة الإرترية إلى إنشاء ثماني كليات جديدة وزعتها على أربعة أقاليم، حيث توجد ثلاث كليات أساسية في الإقليم الأوسط، وثلاث أخريات في إقليم شمال البحر الأحمر، وكلية واحدة في كل من إقليم عنسبا والإقليم الجنوبي. وكان الغرض من إنشاء هذه الكليات عوض جامعة أسمرا وتوزيعها في مدن مختلفة، ضمان عدم التفاف الطلاب مجدداً على فكرة مناوئة لسياسات الحكومة.

وليس معلوماً ما إذا كان بمقدور التعليم في إرتريا أن ينهض مجدداً، مع ازدياد الأوضاع سوءاً، وهروب الشباب المضطرد تفاديّاً للتجنيد الإلزامي دون أمد، ومع استمرار النظام في فرض سلطة القمع والقهر والاعتقالات والاغتيالات ضد كل من يعبر عن فكرة مختلفة، ناهيك أن يكون معارضاً بشكل صريح.

المساهمون