الثورات سجال لا نزال

05 يناير 2015
+ الخط -
تعرّضت الثورات العربية، خلال السنوات الأربع الماضية، لضربات قاصمة كادت تقضي عليها. فتوزع "الربيع العربي" بين ثلاثة أنواع: أولها، تحويل الثورة إلى صراع مسلح، وهو ما حدث في سورية ويجري حالياً في ليبيا. إذ لم يعد هناك مجال للحديث عن ثورة وتغيير وإصلاح، وإنما حرب شاملة حول السيادة على الأرض والسيطرة على الموارد والاستيلاء على الحكم. الثاني، السطو على الحكم بتضافر بين القوة والتآمر معاً، كما حدث في مصر واليمن. النوع الثالث من الثورات تتفرّد به تونس، حيث وجد الجميع مخرجاً من الفوضى ومن الثورة، في تغليب السياسة والاحتكام إلى الصندوق. وفي الحالات الثلاث، لم تكن الثورة إسلامية، ولم يكن كل مَن أيّدها وآمن بها إسلامياً، غير أن القوى المناهضة للثورات نجحت في شيطنة الثورات، بتشويه الإسلاميين، وكل من يبرز من القوى والرموز الثورية، حتى وإن كان غير إسلامي. ومن جانبهم، لم يألُ الإسلاميون جهداً في مساعدة قوى النظم القديمة في ذلك المخطط، بأخطاء ارتكبوها ضد مطالب شعوبهم وخطايا اقترفوها في حق المرجعية الإسلامية. أما غير الإسلاميين، فالمتلوّن منهم انكشف نفاقه للثورة، والصادق فيهم بات معزولاً غير مرغوب فيه.
في أربع من دول "الربيع العربي" (مصر، اليمن، ليبيا، سورية)، يلعب الخطاب الرسمي على وتر الاستقرار المجتمعي، عازفاً لحن الكرامة الوطنية والحفاظ على سيادة الوطن، ممتزجاً بهارموني القضاء على أعداء الشعب من كارهي المجتمع وتجار الدين وبائعي الوطن. وبعد أن أُلصق مصطلح "إرهابي" بكل من هو "إسلامي"، عدا اللطفاء منهم والموالين، اتسعت دائرة التشويه، لتشمل كل من يرفع صوته معارضاً، حتى إن كان غير إسلامي، وإن كانت مطالبه سياسية بعيدة عن الدين. مثل التغيير والإصلاح والحق في المعارضة وحرية التعبير ومحاكمة المخطئ ومحاسبة المسؤولين ومراقبة الحاكم. لذا، اختفى رموز الثورات، أو تعرضوا لإخفاء قسري، سواء أمني أو إعلامي.
في هكذا مشهد، يبدو ظاهر الأمر كأن الثورات هُزمت أو تكاد. بينما جوهره أن من انهزم، ولو مرحلياً، هم الإسلاميون. وكما أن صعود هؤلاء السريع لم يعنِ ولم يؤدِّ إلى انتصار الثورات، فإن إزاحتهم إلى آخر الصفوف، أو حتى خروجهم من المشهد، لا يعني، بالمرة، هزيمة الثورات أو القضاء عليها. فتراجع شعبية تيار، أو انكشاف رموز وشخصيات متلونة، لا يعني اعتذاراً إلى الماضي، أو قبولاً بعودة فساده ورجاله.
أسباب الثورات لم تنتهِ، وإنما يُعاد إنتاجها. ففي مصر، لا سياسات لتصحيح ما قامت الثورات ضده من فساد وإفساد، ولا معايير واضحة لاختيار القيادات، ولا مؤشرات إلى استقلالية الأجهزة الرقابية، أو تعديل مخصصات الموازنة للخدمات العامة (تعليم وصحة). ولا نية في الأفق لإنهاء تحكّم الأجهزة الأمنية في حياة المواطن من ميلاده إلى مماته. ثم لا إعلام يتناول أيّاً من تلك المسائل. بشكل عام، تقدم مصر (ونوعاً ما اليمن) نموذجاً لاجترار السياسات نفسها، بالوجوه الكئيبة نفسها الجاثمة على الصدور من ثلاثة عقود. أما تونس، فقد استوعبت الدرس المصري، فسارعت عند تأزم الموقف إلى تحكيم الصندوق آلية ملزمة للجميع. ومن ثم فمصير الثورة التونسية في عهدة الناخب الذي آثر انتظار الجديد من رحم القديم. وإذا لم يتحصل التونسيون على ذاك الجديد المبتغى، فإن لديهم ميكانيزماً ديمقراطياً يكفل لهم اختياراً أفضل في المستقبل.
كما لم تنجح الثورات في إسقاط نُظُم الحكم القديمة، فإن عودة الحكام ونُخَبهم إلى صدارة المشهد لا تعني نهاية الثورات، خصوصاً أن العودة جاءت كما ذهبوا، الشخوص أنفسهم بالعقول نفسها، بل أكثر غطرسة واغتراراً. وإن كانت تلك انتكاسة فهي فقط عثرة معركة. فيما ثورات الشعوب حروب، والحروب سجال لا نزال.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.