عودة تفصيل القوانين في مصر
عُدّل، قبل نهاية عام 2013، قانون الإجراءات الجنائية المصري بتمديد الفترة القانونية للحبس الاحتياطي عامَين، قابلةً للتكرار بلا حدّ أقصى. وطوال الأعوام العشرة الماضية، تعرّض عشرات آلاف من المصريين لتوقيف مستمرّ أو متكرّر على ذمة الحبس الاحتياطي، بسبب هذا التعديل المشؤوم. وفي سياق ما سمّي "الحوار الوطني"، جرت منذ بضعة أشهر بلورة اقتراح مهمّ لتعديل القانون بتحديد فترة الحبس الاحتياطي لتصبح قصيرة الزمن، ومرّة واحدة، ثمّ فوجئ المصريون بمشروع لتعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل شامل، يتجاوز مسألة الحبس الاحتياطي، ويتطرّق إلى جوانبَ كثيرةٍ ومهمّةٍ، بل جوهرية في إجراءات التقاضي ومباشرة المحاكمات الجنائية أمام القضاء. من بينها إسقاط مبدأ الفصل بين السلطات. إذ يمنح مشروع القانون المُقترَح صلاحياتٍ واسعةً لأجهزة الدولة التنفيذية في اتّخاذ قراراتٍ من صميم اختصاص السلطة القضائية. كذلك تحرم التعديلات الجديدة المُتَّهمين والمحامين حقوقاً وحصانات يُقرُّها الدستور، ويكفلها قانون الإجراءات بصيغته القائمة حالياً المُقترَح تعديلها.
وعلى ذكر الدستور، تمثّل معظم التعديلات المُقترَحة مخالفاتٍ صريحةً ومباشرةً لبنودٍ أساسيةٍ في الدستور، تتعلّق بحقوق الإنسان كالمساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص. فضلاً عن مقوّمات جوهرية لدستورية القوانين، منها بطلان الأثر الرجعي، والغموض والقابلية لتعددية التأويل في بعض الجرائم الجنائية والمخالفات الإجرائية. وعدد آخر من المخالفات الدستورية تضمنتها بنودُ التعديلات المُقترَحة في مشروع القانون الجديد. حتّى هنا، يمكن تفهّم مخالفة أيّ نص قانوني للدستوري وللمبادئ الأساسية في حقوق الإنسان. لكن ما يصعب تفهّمه أو تقبُّله تداول تلك البنود وإقرارها في اللجنة التشريعية المختصّة في البرلمان المصري على عجل، ثمّ بسرعة قياسية تُدخَل تعديلات طفيفة، كما لو كانت البنود جاهزةً، ومعروفاً مسبقاً ما ستثيره من اعتراضات، فأُعِدَّت وحُضِّرت التعديلات عليها أيضاً.
وفي المقابل، جرى تجاهل الملاحظات الجوهرية والاعتراضات كلّها، التي أبدتها جهات مُتعدّدة، بدءاً بنقابة المحامين، الطرف الأكثر تأثّراً وبشكل مباشر بأيّ مشروعات قوانين جديدة تتعلّق بالقضاء وإجراءاته، مروراً بنقابة الصحافيين المعنية بالحرّيات وكفالة التعبير لكلّ المواطنين، وخصوصاً الصحافيين. بينما راح المدلّسون، من الإعلاميين الرسميين والموالين، يتغنّون بمشروع القانون وتعديلاته، كما لو كانت مصر قبل ذلك بلا عدالة وبلا قضاء جنائي، وتسود الفوضى والعشوائية إجراءاته.
لم تقتصر المفاجآت على عدد التعديلات الجديدة واندفاعها نحو سيطرة تنفيذية على القضاء بمختلف مكوّناته، بل هناك حرمان المواطنين من حقوق، والمحامين من حصانات، بما يُخلّ بحياد المنظومة العدلية، إذ تكشف مراجعة سريعة لتطوّر التشريعات القضائية خلال العقد الماضي، أنّ تلك التعديلات الجديدة كانت مُعدَّة منذ عام 2014، لكن لم يُصوَّت عليها في البرلمان القائم حينئذ، ثمّ أُعيد الحديث عن التعديلات نفسها في عام 2017، ثمّ في عام 2021. وفي كلّ مرّة كانت تؤجّل أو لا تناقش برلمانياً.
يُؤكّد الإلحاح على تمرير هذه المخالفات الدستورية، والتشوّهات القانونية، وجودَ إصرار شديد لدى السلطة الحاكمة على تطبيق دكتاتورية الفرد، وإعمال منطق احتكار السلطة، والسيطرة الكاملة على جوانب الحياة العامّة، وليست السياسية فقط. وبالفعل، ثمّة تعديلات أخرى كثيرة طاولت معظمَ القوانين واللوائح المُنظِّمة لمختلف جوانب الحياة، وخصوصاً المُنظِّمة للأنشطة الاقتصادية والمنشآت الصناعية والتجارية، فضلاً عن تلك المُتعلِّقة بالإعلام، سواء في صوره التقليدية أو الجديدة، مثل المنصّات الإلكترونية ومواقع التواصل، وهي فلسفة واحدة تحكم أيّ تشريعات قانونية مُستحدَثةٍ أو مُعدَّلةٍ في مصر ما بعد 2013، وهي فلسفة حصر السلطة في يد واحدة، وتقييد مساحات الحرّية كلّها في الحركة أو التعبير أو حتّى في التفكير.