13 نوفمبر 2024
الثورات العربية وعسكر الأمس واليوم
يُغري ضعف السلطة العسكر بالتقدّم لتسلّم الحكم. قادة جيوش كلّ من السودان والجزائر يجرّبون حظّهم، هم بذلك يحاولون إنقاذ نظام الحكم، لا تسهيل الانتقال إلى الديموقراطية والدولة المستقرّة، إذ لا برامج محدّدة يتحرّكون وفقها! هم بذلك يتطلعون لجديدٍ، يختلف عن دور العسكر في الخمسينيات، حين كانوا هم من قام بالانقلاب، وسيطروا على الدولة، وحوّلوها بما يستجيب لشروط الداخل، وحاجات أكثرية الشعب، وضمن إطار الأيديولوجيات السائدة حينها، وأقصد القومية والاشتراكية. الآن في الدولتين المذكورتين، وفي سورية وبقية الدول العربية، يقف العسكر ضد الثورات، ويحاول تأخير انتصاراتها، ويقف ضد الشعب مباشرة. في الخمسينات، كانوا يُحاصرَون من الغرب والخليج، الآن يُدعمون من ذلك الغرب والخليج؛ هذه ملاحظة يجب الوقوف عندها طويلاً. أقصد أن العسكر حاول أن يكون ثورياً في الخمسينيات، بينما هو حالياً يحاول أن يكون أداة للتبعية ولقمع الثورات، بكل ما يتملك من وسائل قوة وعنف وقهر. هنا من الخطأ التمييز الكبير بين العسكر وأجهزة الأمن، فكلاهما يرفض المدنية والديموقراطية، ويتحرّك بتراتبية منضبطة، وبتنسيقٍ كبير بينهما.
يوصف الجيش والأمن بالدولة العميقة. الحقيقة أن الدولة العميقة هي الطبقات الثرية ومصالحها وتسوياتها وعلاقاتها العالمية. الجيش والأمن أداة تلك الطبقات بالتحديد، وربما يكونون أداة للخارج كذلك. المشكلة العميقة التي تواجهنا هي عدم احتكام الجيش أو الطبقات المالكة للمشاريع الوطنية، وعلى كل مستويات المجتمع، ورؤيتهم القائمة على التبعية. في هذا، نجد أن الاختلافات بين الجيوش العربية ليست هي الأساس. وعلى الرغم من أن حصة الجيش المصري في الاقتصاد أكبر من تونس مثلاً، فالقضية تكمن في غياب رؤية وطنية لدورهم، ولكيفية النهوض بأوضاع الدولة بشكل عام. لنلاحظ أنّ التونسي ابتعد عن المشاركة في الدفاع عن النظام أو الثورة، ولكنه لم يفعل شيئاً حينما عادت رموز النظام القديم إلى الحكم، وكذلك فعل الجيش المصري، وأقام انقلاباً وأعاد النظام القديم.
في سورية هناك حالة من السلطة المتداخلة، حيث الجيش ورجال المال والسلطة يتداخلون
بشكل حاد، وليس من مصلحة هذه الفئات حصول أيَّ تغييرٍ في السلطة، ولكن قوة الثورة أجبرت النظام بكل مكوناته، على التبعية وتسليم البلاد للاحتلالات (إيران وروسيا)، وهو ما يفعله خليفة حفتر في ليبيا مثلاً، وقادة جيوش عربية، إذ تنظر إلى الخارج وحاجاته، وتتحرك وفقَ مصالحه. ما يُحدث الفروق بين دولة وأخرى هو قوة الثورات فقط؛ إذ إن قوة الثورتين السودانية والجزائرية، والتخوف من تكرار مجازر سورية وليبيا واليمن، وربما المجازر الداخلية في تلك البلدان ذاتها، أقول كل ذلك يُجبر جيوش السودان والجزائر على طرح التسويات والمساومات مع الأحزاب السياسية، وكذلك البحث عن خيارات ترضي الشعوب الثائرة.
إنّ تقدّم الجيش ليتسلم الحكم يعني أمرين أساسيين: ضعف الطبقة المالكة، والفاسدة والناهبة للثروات، وضعف الطبقات الثائرة من ناحية أخرى. ذلك الضعف متعدّد الأشكال، وجذره هو غياب بنية صناعية متقدمة وغير مأزومة، وقادرة على تأمين فرص عمل لأغلبية السكان. أيضاً تقدّم الجيش للحكم يعني ضعف الطبقة النقيض، فليس من نقاباتٍ فاعلة، ولا من أحزابٍ قوية تتبنّى مصالحها. وفي هذا الإطار يتقدم الجيش، ويمكن إضافة التراتبية فيه، وخضوعه للانضباط الحديدي. هنا أسّ القضية، وهذا منذ الخمسينيات، وما حدث في الثورات العربية بعد 2011 يؤكد ذلك بالتحديد. نسبية الأمر في تونس عائدة، بدرجةٍ معينة، إلى قوة النقابات، وإلى تهميش الجيش لصالح أجهزة الأمن ومؤسسة الرئاسة حينها، وكذلك وبدرجةٍ معينةٍ إلى قوة الأحزاب السياسية. ولكن ذلك كما أشرت، لم يمنعه من حماية النظام من جديد، وتضخمَ دوره بعد 2011، إذ بدأت تُلاحظ مساهمته في قمع الاحتجاجات في أكثر من مدينة.
فكّكت قوة الثورة في الجزائر مؤسسة الرئاسة، وتحالف الأحزاب الحاكمة، وساهم تشتت أحزاب المعارضة، وسلمية الثورة، بتقدّم الجيش ليقرّر مستقبل الجزائر، ولكن أيضاً بتخوفٍ شديدٍ، ووفق ضغط الشارع! وكذلك الأمر في السودان، وعلى الرغم من أن الوضع لم يستقر للجيش السوداني، ويتغير يومياً، حيث الأزمة أشدّ، والجيش أضعف، والثورة تقودها قوى سياسية ونقابية صلبة، ولديها برنامج للحكم، معلنة بشكل مسبق. ما سيُحدث فرقاً، في حالتي الجزائر والسودان، أن كل قوى السلطة والمعارضة والشعب استفادوا من تجارب سورية واليمن وليبيا، وخطورة الخيار العسكري والأمني، ويحاولون تدوير الزوايا من أجل انتقال ديموقراطي هزيل. صحيح أن الجيش يحاول تجريب مواجهة الثورة، وتحجيمها وتشتيت قواها، ولكنه ينتقل من خسارةٍ إلى خسارةٍ، وهذا واضح في السودان، ولن يستقر أبداً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح برهان، والآن يتركز التفاوض على تسليم السلطة لمجلس رئاسي مدني مصغر، وحكومة كفاءات من شخصياتٍ نزيهة، وتقود العملية الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات العامّة بعد بضع سنوات.
مؤسسة الجيش هي الأكثر تنظيماً وانضباطاً، وهي الحائزة أدوات القوة والقمع، ولها الحق
باحتكار العنف. ويؤكد علم السياسة ضرورة ذلك، وهذا ربما ما سهّل على الجيش أن يتدخل، وقد اشتدت أزمة نظامي كلّ من الجزائر والسودان. ضعف إمكانية تسلّمه الحكم يتعلق بغياب برنامج وطني للنهوض بالمجتمعات، وفي هذا هو يختلف عن دور العسكر في الخمسينيات، حين داعب العسكر حينها مصالح الأكثر فقراً (الإصلاح الزراعي، والتعليم العام، والعمل)، وهي مطالب حقيقية، ولم تستطع الطبقات القديمة تلبيتَها، بل هي سبب عدم تلبيتها، وأيضاً عدم التصدّي للقضية الوطنية والقومية. هذا ليس على طاولة رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، ولا على طاولة عبد الفتاح برهان في السودان، ولا عبد الفتاح السيسي في مصر ولا خليفة حفتر في ليبيا ولا سواهم. وبالتالي هناك أسباب حقيقة، تؤكد عدم قدرة الجيش على تسلّم الحكم، وكونه مدعوماً من دول إقليمية وعالمية فهذا قد يؤجل إبعاده عن الحكم، ولكنه سيحصل بالضرورة.
إذاً ليس في مقدور الجيش مصادرة الثورات على المديين المتوسط والطويل، ولكن أين هي برامج الطبقات الحاكمة أو المفقرة، وكيف سيلبّون حاجات الشعوب؟ هنا القضية وهي في غاية التعقيد، وربما هي سببٌ مركزي لفشل الدولة التي شُكلت بعد الثورات، ولا سيما تونس ومصر. تدفعنا الفكرة السابقة إلى القول إن الثورات العربية لن تتوقف، ولكنها ما زالت تفتقر للرؤى والبرامج التي تسمح لها بتجاوز الأزمات المركّبة، وهي ليست فقط ما ذكرنا، وهذا حديث آخر.
يوصف الجيش والأمن بالدولة العميقة. الحقيقة أن الدولة العميقة هي الطبقات الثرية ومصالحها وتسوياتها وعلاقاتها العالمية. الجيش والأمن أداة تلك الطبقات بالتحديد، وربما يكونون أداة للخارج كذلك. المشكلة العميقة التي تواجهنا هي عدم احتكام الجيش أو الطبقات المالكة للمشاريع الوطنية، وعلى كل مستويات المجتمع، ورؤيتهم القائمة على التبعية. في هذا، نجد أن الاختلافات بين الجيوش العربية ليست هي الأساس. وعلى الرغم من أن حصة الجيش المصري في الاقتصاد أكبر من تونس مثلاً، فالقضية تكمن في غياب رؤية وطنية لدورهم، ولكيفية النهوض بأوضاع الدولة بشكل عام. لنلاحظ أنّ التونسي ابتعد عن المشاركة في الدفاع عن النظام أو الثورة، ولكنه لم يفعل شيئاً حينما عادت رموز النظام القديم إلى الحكم، وكذلك فعل الجيش المصري، وأقام انقلاباً وأعاد النظام القديم.
في سورية هناك حالة من السلطة المتداخلة، حيث الجيش ورجال المال والسلطة يتداخلون
إنّ تقدّم الجيش ليتسلم الحكم يعني أمرين أساسيين: ضعف الطبقة المالكة، والفاسدة والناهبة للثروات، وضعف الطبقات الثائرة من ناحية أخرى. ذلك الضعف متعدّد الأشكال، وجذره هو غياب بنية صناعية متقدمة وغير مأزومة، وقادرة على تأمين فرص عمل لأغلبية السكان. أيضاً تقدّم الجيش للحكم يعني ضعف الطبقة النقيض، فليس من نقاباتٍ فاعلة، ولا من أحزابٍ قوية تتبنّى مصالحها. وفي هذا الإطار يتقدم الجيش، ويمكن إضافة التراتبية فيه، وخضوعه للانضباط الحديدي. هنا أسّ القضية، وهذا منذ الخمسينيات، وما حدث في الثورات العربية بعد 2011 يؤكد ذلك بالتحديد. نسبية الأمر في تونس عائدة، بدرجةٍ معينة، إلى قوة النقابات، وإلى تهميش الجيش لصالح أجهزة الأمن ومؤسسة الرئاسة حينها، وكذلك وبدرجةٍ معينةٍ إلى قوة الأحزاب السياسية. ولكن ذلك كما أشرت، لم يمنعه من حماية النظام من جديد، وتضخمَ دوره بعد 2011، إذ بدأت تُلاحظ مساهمته في قمع الاحتجاجات في أكثر من مدينة.
فكّكت قوة الثورة في الجزائر مؤسسة الرئاسة، وتحالف الأحزاب الحاكمة، وساهم تشتت أحزاب المعارضة، وسلمية الثورة، بتقدّم الجيش ليقرّر مستقبل الجزائر، ولكن أيضاً بتخوفٍ شديدٍ، ووفق ضغط الشارع! وكذلك الأمر في السودان، وعلى الرغم من أن الوضع لم يستقر للجيش السوداني، ويتغير يومياً، حيث الأزمة أشدّ، والجيش أضعف، والثورة تقودها قوى سياسية ونقابية صلبة، ولديها برنامج للحكم، معلنة بشكل مسبق. ما سيُحدث فرقاً، في حالتي الجزائر والسودان، أن كل قوى السلطة والمعارضة والشعب استفادوا من تجارب سورية واليمن وليبيا، وخطورة الخيار العسكري والأمني، ويحاولون تدوير الزوايا من أجل انتقال ديموقراطي هزيل. صحيح أن الجيش يحاول تجريب مواجهة الثورة، وتحجيمها وتشتيت قواها، ولكنه ينتقل من خسارةٍ إلى خسارةٍ، وهذا واضح في السودان، ولن يستقر أبداً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح برهان، والآن يتركز التفاوض على تسليم السلطة لمجلس رئاسي مدني مصغر، وحكومة كفاءات من شخصياتٍ نزيهة، وتقود العملية الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات العامّة بعد بضع سنوات.
مؤسسة الجيش هي الأكثر تنظيماً وانضباطاً، وهي الحائزة أدوات القوة والقمع، ولها الحق
إذاً ليس في مقدور الجيش مصادرة الثورات على المديين المتوسط والطويل، ولكن أين هي برامج الطبقات الحاكمة أو المفقرة، وكيف سيلبّون حاجات الشعوب؟ هنا القضية وهي في غاية التعقيد، وربما هي سببٌ مركزي لفشل الدولة التي شُكلت بعد الثورات، ولا سيما تونس ومصر. تدفعنا الفكرة السابقة إلى القول إن الثورات العربية لن تتوقف، ولكنها ما زالت تفتقر للرؤى والبرامج التي تسمح لها بتجاوز الأزمات المركّبة، وهي ليست فقط ما ذكرنا، وهذا حديث آخر.