التُهامي الناضر: فوتوغرافيا حادة تؤرخ لجروح البشر

15 يونيو 2020
أعمالٌ لا تقع في فخ الهوية (فيسبوك)
+ الخط -
يُروى أن والدة الفنّان الفوتوغرافي المغربي، التُهامي الناضر، قبل أن ترحل، تركت في يده وهو طفل صغير كاميرا ليحمي بها نفسه من الوحدة والتشرّد والحرمان، ومن بؤس هذا العالم وقساوته. طفل ترعرع في أحضان والدته، وتركته وحيداً ينظر إلى قبح هذا العالم بعين واحدة، يُحاول من خلالها أن يُرمّم قساوة واقعه وجرحه. منذ ذلك اليوم وهو يمسك بالكاميرا ولم يفارقها أبداً، بعد أن غادر إلى فرنسا مٌبكراً وهو صبيّ رفقة والده بضواحي باريس. لم يدرس الفوتوغرافيا ولا تخيّل نفسه، أن يصير يوماً، أحد علاماتها البارزة في تاريخ الفوتوغرافيا العربية المعاصرة. إذْ ينظر إليها بوصفها تلك الآلة الساحرة التي ستحميه من شظف العيش وقهر الجغرافيا، فتعلمها سريعاً في غرفته الصغيرة المظلمة.

لا يكف التهامي عن الحفر في داخل كينونة الإنسان، باحثًا عن مظاهر هذا الألم ونتوءاته وأشكاله، بين صُوَرِ العنف والمنفى والاستبداد والعنصرية، وغيرها من المفاهيم التي تهتم بإنسانية الإنسان داخل خارطة العالم. يفكك التهامي أشكال هذا الألم والتنكيل الذي يتعرض له الإنسان من لدن مؤسسات سياسية واجتماعية أو قانونية، وما تتركه هذه السُلطات من أثرٍ في جسد المرء.

غير أنّ مفهوم العنف في أعمال التهامي الناضر، يأخذ بعداً رمزياً ومُشتركاً إنسانياً، هو أشبه بثقافة كونية، تُميّز طبيعة الوجود وشكل الحياة المعاصرة في فوضويتها. خاصة وأنها تُعبّر بجرأة عن ذلك المكبوت من العنف الذي تصنعه الأنظمة الاستبدادية، والذي يتسرب إليها عبر لاوعي القرارات والقوانين والاعتقالات المزمنة التي تحدّ من حرية الكائن وحقه في التعبير والعيش الكريم.

لذلك اعتبرت دوماً صور التُهامي في نظر المؤسسات العالمية، أحد أهمّ الإنتاجات الفنية التي ميّزت الفوتوغرافيا المغربية عن نظيرتها الكولونياليّة داخل المغرب أو خارجه، لأنها صورت بجماليّة متفردة. واعتبرتها هذه المؤسسات دومًا تجربة فنية كونية لا ترتبط ببلد عربيّ، ولم تشغل نفسها في أن تُقيم لتشعبها واختراقاتها حدوداً وسياجات ضيقة لتقع في فخ الهوية والتزمت والنظرة الأحادية.

وبينما اخترقت شهرة الناضر الآفاق واحتلت أعماله الفوتوغرافية وتنوعها مختلف المؤسسات الفنية عبر العالم، ظلّ اسمه داخل المغرب مجهولا. فقط قلة قليلة من المثقفين، هي من تعرف أعماله الفنية، بالرغم من أن جهات رسمية كبيرة، تعترف بنجاعته وقيمته كأحد أهم الفوتوغرافيين الذين أسسوا لتجربة فنية مغايرة داخل المغرب، بل يقف نداً لتجارب فوتوغرافية عالمية من فرنسا وألمانيا وبلجيكا وأميركا. هذه الأخيرة، سيقيم فيها برهة من الزمن، ويكتشف معها في سلسلة من معارضه الفوتوغرافية تناقض "الحلم الأميركي" بين ديمقراطية متفسخة وتاريخ طويل من العنصرية في حق السود. وهو أمرٌ انتبهت إليه الناقدة الأميركية، سوزان سونتاغ، في كتابها الرائد عن الفوتوغرافيا، تقول "المصوّرون الأميركيون هم في الغالب على الطريق يغلبهم التساؤل السفيه عمّا يمكن لوطنهم أن يقدّم لهم في درب المفاجأة فوق الواقعية. أخلاقيون ونهابون عديمو الضمير، يحسون أنفسهم أطفالاً وغرباء في موطنهم، يريدون أن يتمكنوا من شيء، في سبيله إلى الاختفاء، وغالباً ما يعجّلون باختفائه من خلال تصويره".



جاءت أعمال التهامي الناضر التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر رداً قوياً على طبيعة الأنظمة السياسية في الغرب، من خلال جعله من الفوتوغرافيا أداة فنية تُدين الحاضر، ولاستيعاب مفاهيم القهر والتحرّر والحلم، بل وتمنح لنفسها إمكانية تشرّب التاريخ بألمه وجُرحه والقبض عن فسحة وجودنا داخل صورة، قد تبدو أقرب إلى الحقيقة. هذا ما تهجس به فوتوغرافيا الناضر، بسبب ثبوتها وقدرتها على تجميد الزمن وجعله يخضع لديمومة تظلّ في أساسها مجرد نوستالجيا.

وهذا الأمر، فطن إليه عدد من المؤرخين، ممن تلمّسوا طريقهم إلى الفوتوغرافيا كوثيقة تاريخية للتأريخ لمرحلة تاريخية ما، أكثر من اعتمادهم على الصورة الفنية/ التشكيلية التي تستدعي الفكر والمخيلة أكثر من الواقع. غير أن فوتوغرافيا الناضر، لا تشغل نفسها بهذا التأريخ الأكاديميّ، بل تظلّ مقيمة في تخوم الذات ومجاهلها، لتجهل الفنّان، يبدو في تعامله مع هذه الفوتوغرافيا أشبه بذلك الطفل، الذي تركته والدته داخل طبقات الجحيم السفلي، وبين يديه آلة، فراح يُصوّر ما تراه عيناه من كآبة وظلم واستبداد وألم. هكذا تحرّرت أعماله الفوتوغرافية مُبكراً من سُلطة التقليد والاجترار للنماذج العالمية. وسخرت لنفسها الإقامة في تخوم الجسد، وفي سراديب المجتمعات المقهورة ومجاهلها في ليل الاستبداد والدم. إنه قدر الفوتوغرافيا داخل البلاد العربية، إذْ لم تستسغه مؤسساتها الرسمية، بعد أن ظلت الصورة الفوتوغرافية مثار غموض ونزاع بين إجازة استعمالها وتحريمها من لدن فقهاء مغاربة، منذ مطالع القرن العشرين، بالرغم من "إجازتها" مقارنة مع الصورة الفنية التجسيدية. إلا أن الفوتوغرافيا، ظلّت مع ذلك الحلقة المفقودة في تاريخ الفن المغربي منذ الستينيات إلى الآن، بسبب تأثيراتها وقدرتها على التسلّل إلى مُتخيّل المؤسسات السياسية والجهر بحقائقها وزلاتها وفداحتها.
دلالات
المساهمون