08 نوفمبر 2024
التيه الفلسطيني
تتصاعد التكهنات، في الآونة الأخيرة، عن احتمال تفجر انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة الغربية والقدس المحتلتين. وعملياً، مبررات مثل هذه الانتفاضة، قائمة فعلاً، وهي لا تنحصر في العدوان الإسرائيلي الممنهج على المسجد الأقصى المبارك، فالفلسطينيون في الضفة والقدس، كما في قطاع غزة، يعانون الأمرَّين جرّاء سياسات الاحتلال الإسرائيلي الوحشية. وتترافق تلك السياسات مع فشل مشروع "التسوية السياسية" الذي بشر به "زعماء" فلسطينيون. فبعد أكثر من عشرين سنة على توقيع اتفاقية أوسلو، لم تقم الدولة الفلسطينية العتيدة، ولم تتحرّر إرادة الشعب من القيود الإسرائيلية البغيضة. بل على العكس، رسخت "أوسلو" الاحتلال وجمّلته، وسمحت له بتمييع القضية الفلسطينية وتقويض ثوابتها، والأدهى أنها أوجدت طبقات، سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، فلسطينية، مرتهنة بوجودها وازدهارها إلى مشروع "التسوية" نفسه الذي يكرّس الاحتلال.
أمام هذه الحقائق المُرَّة، والتي أقر بكثير منها الرئيس الفلسطيني نفسه، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أواخر الشهر الماضي، ثمّة من ينادي، اليوم، بضرورة إطلاق انتفاضة فلسطينية شاملة، بهدف انتشال الوضع الفلسطيني من بؤسه، وقلب المعادلات، واستعادة ألق القضية الفلسطينية، التي أصابها صدأ كثير، وتوارت خلف حواجز النسيان، جرّاء الوضع العربي المتفجر وتبدل الأولويات في المنطقة.
التفكير في بدائل للحضيض الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية مشروع، بل مطلوب وضروري، غير أن السؤال، هنا، هل إطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة، الآن، هو الطريق الأصلح لقلب المعادلات، واستعادة ألق القضية وأولويتها؟
أثبت الشعب الفلسطيني، على مر عقود من الاحتلال، أنه معطاء نضالياً، ولا يمكن لأحد أن يشكك في مقاومته وتضحياته الكبيرة في سبيل كرامته وحريته واستقلاله. لكن، لا ينبغي لهذه الحقيقة أن تصرف انتباهنا عن حقيقة أخرى، هي أن الشعب الفلسطيني لم يفرز قيادات وزعامات على قدر ومستوى نضاله وعطائه.
وعلى الرغم من أن الانتفاضة الأولى (1987-1994) التي تحدى فيها الكف الفلسطيني
المخرز الصهيوني، أعادت للقضية الفلسطينية أولويتها عربياً ودولياً، إلا أنها، وبسبب ضعف "الزعامة" الفلسطينية، عادت على القضية بكارثةٍ حقيقيةٍ اسمها اتفاقية أوسلو، والتي كَفَتْ إسرائيل مؤونة كلف الاحتلال، مع بقائه، وهو ما يعرف، في القاموس السياسي الفلسطيني، "الاحتلال الديلوكس". وتحت مظلة "أوسلو" التي زعم سدنتها من الفلسطينيين أنها ستفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية "المستقلة" و"ذات السيادة" على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها "القدس الشرقية".. تحت تلك الاتفاقية، ضاعفت إسرائيل من مصادرة الأرض الفلسطينية، وتسمين المستوطنات، وتهويد القدس، ملغية في ذلك أي إمكانية لقيام "الدولة" التي طالما بشر بها هؤلاء. وحين أدرك الرئيس الراحل، ياسر عرفات، ذلك، وحاول قلب الطاولة، عبر انتفاضة الأقصى (2000-2005)، كان مصيره التغييب القسري.
كانت الانتفاضة الثانية أشد وطأة على إسرائيل، وقدم الفلسطينيون فيها من التضحيات ما لا يمكن وصفه بكلمات، غير أنها، مرة أخرى، لم تتمكّن من انتشال الوضع الفلسطيني من بؤسه. فمع تغييب عرفات، أواخر عام 2004، وصعود محمود عباس خلفاً له، ارتكس حال "الزعامة" الفلسطينية أكثر فأكثر. فإذا كان عرفات قد تنازعه بُعدان في شخصيته، الثائر والسياسي، وهو ما اتضح في قلبه الطاولة على الخداع الإسرائيلي عبر انتفاضة الأقصى، بعد فشل مفاوضات "كامب ديفيد" عام 2000، فإن عباس، لا يوجد بُعد ثوري في شخصيته، ولا هو رجل معروف بالتضحية، وهو ما أدى إلى تحويل السلطة، تحت قيادته، إلى هيئة، بوظيفتين، بلدية خدمية تتحمل مؤونة الشعب الفلسطيني، وأمنية قمعية تقوم بدور ذراع أمني مكمل لأجهزة الأمن الإسرائيلية.
ولعل خطاب عباس، قبل أيام، في الأمم المتحدة، والذي هدد فيه بعدم التزام السلطة الفلسطينية بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، يوضح غياب البعد الثوري في شخصية الرجل ومن يحيط به، والذين هم من إفرازات "أوسلو". فلم تمض أيام على ذلك الخطاب حتى كان عباس، و"القيادة الفلسطينية" يعلنون استعدادهم إلى العودة إلى "طاولة المفاوضات" مع إسرائيل، مقابل وقف الاستيطان وإطلاق سراح 30 أسيراً، كانت إسرائيل وافقت على إطلاق سراحهم العام الماضي. ليس هذا فحسب، بل سارع عباس إلى إصدار أوامر إلى الأجهزة الأمنية بمنع الفلسطينيين من التصعيد مع إسرائيل، رداً على جرائمها وانتهاكاتها، الأمر الذي استحق التنويه من قادة أمنيين وعسكريين إسرائيليين، ذلك أنهم أكدوا أن "التنسيق" الأمني بين الطرفين لا زال مستمراً.
السؤالان اللذان يطرحهما العرض السابق، هما، كيف يمكن للقضية أن تستعيد ألقها بمثل "زعامة" كهذه عبر انتفاضة جديدة؟ وكيف يمكن أن يكون هناك قلب للمعادلات مع "ثوار" أثروا من الثورة، وهم اليوم يتنافسون على صدارتها وتقديم أوراق اعتمادهم، إسرائيلياً، وإقليمياً، ودولياً؟
قد يقول بعضهم إن الانتفاضة ستكون فرصة لتغيير تلك "القيادة" الهرمة والفاشلة، وهذا كلام جميل لو أمكن تحقيقه، غير أن السؤال التالي سيكون، كيف السبيل إلى ذلك، و"المشروع الوطني"، اليوم، لا يحظى بتعريف واضح ولا إجماع عليه؟ هل نريد انتفاضة مقدمة للتحرير الشامل، أم لتكون تحريكية للعملية التفاوضية، أم لتسجيل موقفٍ نضالي، من دون أفق سياسي؟
هل ما سبق دعوة للانهزامية والاستسلام للواقع الكئيب؟ أبداً، بل هي صرخة من أجل ضرورة التوافق على مشروع وطني واقعي ومنطقي. مشروع لا ينحدر إلى الحضيض، ولا يحلق في الخيال إلى السماء، ولا يقضي على ديمومة الثوابت والحقوق. إنها صرخة، من أجل استعادة القرار الفلسطيني من أيدي "حفنة" أقصت الكل الفلسطيني وكفاءاته في الداخل والشتات. إنها دعوة لبدء عملية تخليق قيادة وطنية، تملك مؤهلات الزعامة الحقة، وقادرة على المبادرة، وتستند إلى عمق شعبي حقيقي، ورؤيةٍ ومشروعٍ توافقيين، وتؤمن بإمكانات شعبها، وتقدر على توظيف عطائه ونضاله وتضحياته، في سبيل حصاد سياسي يستحق. بغير ذلك، أخشى أن من يدعون إلى انتفاضة فلسطينية جديدة، إنما يقودون الشعب الفلسطيني إلى مذبحةٍ وكارثةٍ أخرى، في ظل غياب شروط نجاح الانتفاضة داخلياً، وانهيار الوضع العربي برمته، وتواطؤ العجز الأجنبي. وبغير ذلك، سنبقى في التيه الذي يريد الكل الخروج منه، لكن أحداً لا يريد التفكير في كيفية ذلك والتخطيط له.
أمام هذه الحقائق المُرَّة، والتي أقر بكثير منها الرئيس الفلسطيني نفسه، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أواخر الشهر الماضي، ثمّة من ينادي، اليوم، بضرورة إطلاق انتفاضة فلسطينية شاملة، بهدف انتشال الوضع الفلسطيني من بؤسه، وقلب المعادلات، واستعادة ألق القضية الفلسطينية، التي أصابها صدأ كثير، وتوارت خلف حواجز النسيان، جرّاء الوضع العربي المتفجر وتبدل الأولويات في المنطقة.
التفكير في بدائل للحضيض الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية مشروع، بل مطلوب وضروري، غير أن السؤال، هنا، هل إطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة، الآن، هو الطريق الأصلح لقلب المعادلات، واستعادة ألق القضية وأولويتها؟
أثبت الشعب الفلسطيني، على مر عقود من الاحتلال، أنه معطاء نضالياً، ولا يمكن لأحد أن يشكك في مقاومته وتضحياته الكبيرة في سبيل كرامته وحريته واستقلاله. لكن، لا ينبغي لهذه الحقيقة أن تصرف انتباهنا عن حقيقة أخرى، هي أن الشعب الفلسطيني لم يفرز قيادات وزعامات على قدر ومستوى نضاله وعطائه.
وعلى الرغم من أن الانتفاضة الأولى (1987-1994) التي تحدى فيها الكف الفلسطيني
كانت الانتفاضة الثانية أشد وطأة على إسرائيل، وقدم الفلسطينيون فيها من التضحيات ما لا يمكن وصفه بكلمات، غير أنها، مرة أخرى، لم تتمكّن من انتشال الوضع الفلسطيني من بؤسه. فمع تغييب عرفات، أواخر عام 2004، وصعود محمود عباس خلفاً له، ارتكس حال "الزعامة" الفلسطينية أكثر فأكثر. فإذا كان عرفات قد تنازعه بُعدان في شخصيته، الثائر والسياسي، وهو ما اتضح في قلبه الطاولة على الخداع الإسرائيلي عبر انتفاضة الأقصى، بعد فشل مفاوضات "كامب ديفيد" عام 2000، فإن عباس، لا يوجد بُعد ثوري في شخصيته، ولا هو رجل معروف بالتضحية، وهو ما أدى إلى تحويل السلطة، تحت قيادته، إلى هيئة، بوظيفتين، بلدية خدمية تتحمل مؤونة الشعب الفلسطيني، وأمنية قمعية تقوم بدور ذراع أمني مكمل لأجهزة الأمن الإسرائيلية.
ولعل خطاب عباس، قبل أيام، في الأمم المتحدة، والذي هدد فيه بعدم التزام السلطة الفلسطينية بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، يوضح غياب البعد الثوري في شخصية الرجل ومن يحيط به، والذين هم من إفرازات "أوسلو". فلم تمض أيام على ذلك الخطاب حتى كان عباس، و"القيادة الفلسطينية" يعلنون استعدادهم إلى العودة إلى "طاولة المفاوضات" مع إسرائيل، مقابل وقف الاستيطان وإطلاق سراح 30 أسيراً، كانت إسرائيل وافقت على إطلاق سراحهم العام الماضي. ليس هذا فحسب، بل سارع عباس إلى إصدار أوامر إلى الأجهزة الأمنية بمنع الفلسطينيين من التصعيد مع إسرائيل، رداً على جرائمها وانتهاكاتها، الأمر الذي استحق التنويه من قادة أمنيين وعسكريين إسرائيليين، ذلك أنهم أكدوا أن "التنسيق" الأمني بين الطرفين لا زال مستمراً.
السؤالان اللذان يطرحهما العرض السابق، هما، كيف يمكن للقضية أن تستعيد ألقها بمثل "زعامة" كهذه عبر انتفاضة جديدة؟ وكيف يمكن أن يكون هناك قلب للمعادلات مع "ثوار" أثروا من الثورة، وهم اليوم يتنافسون على صدارتها وتقديم أوراق اعتمادهم، إسرائيلياً، وإقليمياً، ودولياً؟
قد يقول بعضهم إن الانتفاضة ستكون فرصة لتغيير تلك "القيادة" الهرمة والفاشلة، وهذا كلام جميل لو أمكن تحقيقه، غير أن السؤال التالي سيكون، كيف السبيل إلى ذلك، و"المشروع الوطني"، اليوم، لا يحظى بتعريف واضح ولا إجماع عليه؟ هل نريد انتفاضة مقدمة للتحرير الشامل، أم لتكون تحريكية للعملية التفاوضية، أم لتسجيل موقفٍ نضالي، من دون أفق سياسي؟
هل ما سبق دعوة للانهزامية والاستسلام للواقع الكئيب؟ أبداً، بل هي صرخة من أجل ضرورة التوافق على مشروع وطني واقعي ومنطقي. مشروع لا ينحدر إلى الحضيض، ولا يحلق في الخيال إلى السماء، ولا يقضي على ديمومة الثوابت والحقوق. إنها صرخة، من أجل استعادة القرار الفلسطيني من أيدي "حفنة" أقصت الكل الفلسطيني وكفاءاته في الداخل والشتات. إنها دعوة لبدء عملية تخليق قيادة وطنية، تملك مؤهلات الزعامة الحقة، وقادرة على المبادرة، وتستند إلى عمق شعبي حقيقي، ورؤيةٍ ومشروعٍ توافقيين، وتؤمن بإمكانات شعبها، وتقدر على توظيف عطائه ونضاله وتضحياته، في سبيل حصاد سياسي يستحق. بغير ذلك، أخشى أن من يدعون إلى انتفاضة فلسطينية جديدة، إنما يقودون الشعب الفلسطيني إلى مذبحةٍ وكارثةٍ أخرى، في ظل غياب شروط نجاح الانتفاضة داخلياً، وانهيار الوضع العربي برمته، وتواطؤ العجز الأجنبي. وبغير ذلك، سنبقى في التيه الذي يريد الكل الخروج منه، لكن أحداً لا يريد التفكير في كيفية ذلك والتخطيط له.