التودّد إلى القاتل: البطريرك يحاور داعش
يكفي القول إننا في زمن داعش، لتلخيص المخاطر التي تعيشها شعوب المنطقة. يشمل ذلك سياسة الجَلْد وقطع الرؤوس، مروراً باحتلال الأراضي وسبي النساء، وصولاً إلى إعلان دولة الخلافة على مجتمعاتٍ بات أهلها يعيشون على وقع السياط. كانت ممارسات داعش واضحة على المسلمين في العراق وسورية، وإذ بها تزداد بطشاً مع سيطرة دولتها على المناطق المسيحية في الموصل.
وحّدت ممارسات داعش نزف العراقيين والسوريين، السنّة والشيعة والمسيحيين. أجّل هذا التنظيم حرباً وجودية بين الأنظمة في المنطقة، وعدّل خارطة الصراعات الخارجية. وأزالت دولته الخطر عن سقوط أنظمةٍ، وأطالت في عمر أخرى. بات الجميع حلفاء، في الخليج وأوروبا والغرب. أصبح ظلم حكم نوري المالكي ثانوياً أمام بطش داعش، وأضحت جرائم نظام آل الأسد غير مرئية، بوجود آلة القتل الداعشية. اجتمع الكلّ على محاربة الإرهاب، أي "داعش أولاً"، بما في ذلك من تمهيد لخريطة سياسية جديدة، سيفرضها الميدان. لم يعد الحديث قائماً عن ربيع عربيٍّ، وحرية شعوب، ولا في المقابل عن مؤامرة تقسيم. اختفى ذلك كله، واستُبدل بالحرب على الإرهابيين.
أمام هذا المشهد الدموي بضحاياه، والحسّاس بتفاصيله السياسية، لم يجد بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق، الكاردينال بشارة الراعي، سوى دعوة داعش إلى الحوار! بلغة الراعي: "واحدة فقط تجمعنا بكم (بداعش) هي إنسانية الإنسان. تعالوا نتحاور، ونتفاهم على هذا الأساس". الجميع يريد قتال الإرهاب، أما البطريرك، فيبحث عن الحوار. الجميع يعاني من لاإنسانية هذا التنظيم، ولاأخلاقياته، ومنطقه المفقود، بينما يعلّق رأس الكنيسة المارونية آمالاً على منطق الإصغاء والكلام.
غلب منطق الطوباوية المسيحية على موقف الراعي. من موقعه المسيحي، لا يمكنه تخطّي لغة السلام والسماح المسيحيين. ليس في مقدوره الدعوة إلى القتال، وإلا عاد قروناً إلى الوراء، إلى عصور الحملات الصليبية ليرتدي قمصان الداعشيين الأوائل. يتحدث الراعي، من وجهة نظر كنسية كلاسيكية لا أكثر، فهو، بالتأكيد، يعلم جرح العراقيين والسوريين. يمكن لكاردينالٍ في إيطاليا، أو رجل دين في تشيلي، أو كاهن في كندا، التسلّح بهذه الروح المسيحية، باعتبارهم بعيدين آلاف الكيلومترات عن المجزرة الحاصلة في الشرق. كان في وسع الراعي الاكتفاء بالإشارة إلى حفلة التنكيل الحاصلة بحق مسيحيي الموصل، والتأكيد على التضامن الكامل مع أهل العراق، كما فعل. قال ذلك، فشدّد على "تضامننا مع إخواننا المسيحيين في الموصل، وكلّ العراق العزيز. نتضامن مع كنيسة المسيح التي في العراق". إلا أنه أراد إضافة مؤثراته الخاصة، كالعادة. لكن، هذه المرة، على حساب المنطق البشري والاجتماعي الجماعي.
تحمل طوباوية الراعي معها تفسيرات كثيرة أخرى، لا علاقة لها بالدين والإيمان والغفران. تكشف عن إرباك تعيشه الكنيسة، وهو شعور منطقي وبديهي وعام، يعيشه الجميع في زمن داعش. إلا أنّ رأس الكنيسة أبى، إلا أن يثبته ويعلنه. يمكن ترجمة هذا الإرباك في ردة فعل المدبّر الرسولي، المطران بولس صيّاح، الذي قال لـ"العربي الجديد": "افهموا كلام غبطة البطريرك كما تشاؤون. لا نريد شرح شيءٍ، ولا نبحث عن توضيح الموقف".
وعدا الإرباك، قد ينتاب المعنيين بهذا الملف شعورٌ بالعجز تجاه ما يحصل. إذا كان الجيش العراقي أخلى المناطق لداعش والنظام السوري، عن قصد أو عن غير قصر، غير قادر على وضع حد لتمدّد التنظيم في سورية، فما بال الكنيسة المارونية التي لا جيش لها، ولا تنظيم، ولا تجمّع سياسياً جامداً يمثّلها ويتبنى خياراتها بشكل مطلق؟ لا بل إنّ رعاياها مشتّتون سياسياً إلى أبعد حدود، يختلفون على التفاصيل والعموميات، بدءاً من انتخاب رئيس الجمهورية (من حصة الطائفة المارونية)، وصولاً إلى إقرار قانون انتخابي، مروراً بالصراع على الوظائف العامة والحصص الحزبية فيها.
على الرغم من مجمل هذا الواقع الصعب، يبدو أنّ الراعي مستمر في البحث عن دور، وعن صيغة للتمايز. يحمل هذه المهمّة في أدق الملفات وأصعبها، كأنه يعتمد سياسة الصدمات والغارات الفجائية. هكذا فعل يوم تمسّك بزيارة الأراضي المحتلة في فلسطين، ويكرّر التجربة، اليوم، على وقع تهجير مسيحيي الموصل.
تتحكّم هذه الشخصية بقرارات الكنيسة ومواقفها، بحثاً عن ظهور وتمايز وموقع أكبر، يحصده البطريرك بين الناس، وفي الإعلام. لكننا لم نرَ غفران السيّد المسيح، وفق أسلوب الراعي، مع الثورة السورية. طوال ثلاث سنوات من حربها مع النظام، ومن جمع أشلاء أبنائها، لم يمنح البطريرك هذه الثورة فرصة الحوار والتفاهم. ربما لأن الثوار الحقيقيين لم يبطشوا كما فعل الداعشيون، فامتنع المربكون والعاجزون عن مدّ اليد إليهم. فلم يمارسوا تجاهها فعل التودّد إلى القاتل، لاستدراج عاطفته، كما فعلوا مع النظام السوري سابقاً، ومع داعش اليوم.