"بلّورة من الكريستال، دخلها طفلي لتعزله عني وعن العالم، وكأنه في كوكب آخر، فلا نظرة من عينه إلى عيني، ولا قبلة أشعر معها بطعم الدنيا، كم تمنيت أن أكسر تلك البلُّورة، وأخرج منها صغيري. أهزه بعنف علّه يعود من منفاه".
هكذا وصفت إحدى الأمهات مرض التوحد، ذلك الاضطراب الغامض، الذي يصيب على الأقل واحداً من كل 150 طفلاً من الجنسين وواحداً من كل 94 طفلاً ذكراً في العالم، كما يعد التوحد أسرع مرض إعاقة انتشاراً في العالم إذ تجاوزت نسبة المصابين به المصابين بالسرطان أو الإيدز أو الإعاقات الأخرى، حسب الجمعية العامة للأمم المتحدة التي حدّدت اليوم، الثاني من أبريل اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد.
يعاني الطفل المتوحد من صعوبة في فهم واستخدام اللغة، بالإضافة إلى صعوبات في التصور والتواصل الاجتماعي، وتظهر أعراض التوحد لدى غالبية الأطفال في سن الرضاعة، وعلى الرغم من أن كل طفل يعاني من أعراض التوحد يُظهر طباعاً وأنماطاً خاصة به، إلا أن معظم المتوحدين يشتركون في سلوكيات عدةٍ، منها عدم الاستجابة لمناداة أسمائهم، ولا يكثرون من الاتصال البصري المباشر، ويميلون إلى اللعب مفردين، ويبدؤون الكلام في سنٍ متأخرة، ويبدو أنهم لا يدركون مشاعر الآخرين.
يقول استشاري طب الأطفال في أمبريال كوليج، د، علي الإمام: يشخص مرض التوح
د عن طريق المقابلة التشخيصية للتوحد، أو ما يعرف بالـ ADI، وهي عبارة عن مجموعة من الأسئلة تغطي جوانب اجتماعية وسلوكية عدة، أيضا تعتبر المراقبة الإكلينيكية لسلوكيات الطفل مهمة في التشخيص، وهناك الاختبار المشهور المسمى ADOS-G، أيضاَ يحتاج الطبيب إلى بعض الفحوصات لاستبعاد أمراض أخرى مثل فحوصات السمع، وتخطيط المخ، وتحاليل الغدة الدرقية وغيرها، وعلى الرغم من الأهمية الكبرى للتشخيص المبكر -إذ أثبتت الأبحاث أن تلقي هذه البرامج التعليمية مبكراً له نتائج إيجابية جداً مقارنة بتلقيها في وقتٍ متأخر- إلا أن هناك غياباً واضحاً لمراكز التدخل المبكر لعلاج التوحد في معظم دول العالم، ولاسيما الدول العربية.
ويشتمل مرض التوحد على أنواع عدة تختلف حدة الأعراض فيما بينها وهي: التوحد الكلاسيكي، اضطراب طيف التوحد، متلازمة اسبيرجر، اضطراب النمو الشامل غير المحدد، اضطراب الطفولة التحللي، ومتلازمة ريت، وحتى الآن لا يوجد علاج معروف ومثبت علمياً لمرض التوحد غير العلاج السلوكي التعليمي.
اعتقادات خاطئة
وعلى الرغم من الزيادة المستمرة في عدد المصابين بالتوحد في العالم، إلا أن كثيراً من الأسر مازالت تواجه معاناة حقيقية تتمثل في غياب الوعي المجتمعي بذلك المرض، والخلط بينه، وبين التخلف العقلي، على الرغم مما أظهره كثير من المصابين باضطراب طيف التوحُّد من ذكاء عال وتفرُّد واضح؛ حيث
شهد عالم النجاح والشهرة عدداً غير قليل من المصابين بأحد أنواع التوحد، نذكر منهم: أينشتاين، اسحق نيوتن، بيل جيتس، موتسارت، والمخرجين العالميين وودي آلان وستيفن سبيلبرج.
كذلك جربت كثير من الأسر، أن يحمل المجتمع الأم مسؤولية معاناة الطفل من المرض، إذ يسود اعتقاد أن التوحد يحدث نتيجة إهمال الأم طفلها، وعدم إظهارها مشاعر الحب والحنان له، وهي فرضية قديمة جداً في تفسير التوحد عرفت باسم "الأم الثلاجة"، وضعها الطبيب النفسي الأمريكي "ليو كانر" الذي يعد أول من حدد الخصائص الرئيسية للاضطراب التوحدي.
إلا أن تلك الفرضية قد ثبُت خطؤها، فعند نقل هؤلاء الأطفال التوحديين الى العيش مع عائلات بديلة كعلاج، لم يكن هناك تحسن لحالتهم، كما أنه لوحظ وجود أطفال أصحاء لدى الوالدين نفسيهما، كما وُجد أن بعض حالات التوحد تبدأ منذ الولادة، ولذلك تُوصل إلى أن التوحد يصيب جميع العائلات، في جميع الأوطان والأعراق والجنسيات.
ومع ذلك ما زالت تلك الفرضية تلقى تداولاً واسعاً حتى في أكثر المجتمعات تقدُّماً، تقول بريجيت بيستريك برايان – أم طفل يعاني من متلازمة اسبرجر من أصل ألماني- "ابني كان طفلاً شديد الذكاء ولم يواجه أية صعوبات في اللغة أو الكلام، خلال سنواته الدراسية الأولى كان شديد التفوق لكنهم لاحظوا ميله الى العزلة وعدم التواصل وبعد التشخيص، بدأ نوعاً آخر من المعاناة إذ اعتاد بقية الأطفال في المدرسة التحرش به مما جعله أكثر عدوانية تجاههم، هرباً من تلك المعاناة اليومية قررت نقله إلى مدرسة متخصصة لمرضى التوحُّد، وأعتقد أنه كان قراراً صائباً على الرغم من أنه لم يتقبله في البداية وعانى من آلام نفسية، كانت تدفعه إلى الصراخ المتواصل لأيام طويلة، حيث لم يكن قادراً على التفريق بين الألم الجسدي والنفسي.
بريجيت، التي خاضت رحلة استغرقت سبعة عشر عاماً من المعاناة، قرأت خلالها كل كتاب يتعلق بالتوحد، وحضرت كل اجتماع خاص بعلاج طفلها، كما عاشت تجربة إلقاء المحيطين باللائمة عليّها في مرض ابنها الذي يبدي تفوقاً واضحاً في دراسته للفيزياء في جامعة لندن الآن، تأثرت بشدة حينما تحدثت عن شعورها الداخلي بالذنب تجاه ابنتها الصغرى التي تضررت كثيراً من وراء تلك المشكلة، على الرغم من تفهمها خصوصية الموقف وتسامحها في كثيرٍ من حقوقها.
أما "أ.ع." التي اختارت عدم ذكر اسمها لأسباب تتعلق بنظرة المجتمعات العربية للمصابين بالمرض، فأبدت عدم رضاها التام عن الخدمات الطبية في لندن، وشكت من بطء عملية التدخل العلاجي، إذ بقي طفلها على قائمة الانتظار مدة جاوزت الثمانية أشهر، بينما تم تشخيصه بعد ذلك بعشرة أشهر كاملة.
"أ.ع." التي قدمت إلى لندن للحصول على الدكتوراه، عانت من الشعور بالذنب تجاه طفلها أيضاً؛ إذ اعتادت خلال السنوات الأولى من عمره أن تتساهل في مشاهدته التليفزيون ساعات طويلة خلال اليوم، وعلى الرغم من معرفتها حقيقة عدم ارتباط مرض التوحد بالبيئة المحيطة، إلا أنها تؤمن بأن طفلها سيتحسن كثيراً إذا ما عادت به إلى مصر.
علاجات بديلة
وتتواصل جهود الباحثين في محاولة إيجاد سبب أو علاج نهائي لهذا المرض من دون جدوى، إلا أن هناك كثيراً من الأبحاث الجادة والعلاجات التي لم يعترف بها علمياً، وجدت ذيوعاً كبيراً في المجتمعات الأوروبية، إذ شهدت نسبة غير قليلة، من الأطفال الذين جربوها، نوعاً من التحسّن الملحوظ.
يعتقد "د. داميان داونينج" رئيس الجمعية البريطانية للطب البيئي والمعالج بما يعرف بـ"بروتوكول دان" أن هناك أسباباً عدة محتملة لمرض التوحُّد، منها الزئبق المستخدم كمادة حافظة للقاحات، وإعطاء الطفل لقاحات عدة في الوقت نفسه، مما يؤثر سلباً على جهازه المناعي، وسوء التغذية، والتعرض للمبيدات الحشرية، والتلوث البيئي، والالتهابات المزمنة، ووجود تاريخ مرضي للتحسس في العائلة.
ويعتمد أسلوب العلاج بـ"بروتوكول دان" في المقام الأول على إجراء فحوصات مخبرية دقيقة للتأكد من عدم وجود أي نوع من أنواع الحساسية أو المواد السامة أو المعادن الثقيلة، وبعد ذلك يوضع الطفل المريض على نظام غذائي خالٍ من مادتي الجلوتين والكازين الموجودتين بشكل أساسي في القمح وحليب البقر.
ويؤكد د. داونينج على فاعلية هذا البروتوكول في التخفيف من حدة الأعراض لدى كثيرٍ من الأطفال، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن يقره كعلاج مثبت علمياً.
أما د. علي الإمام، فيشارك في ورقة بحثية تتحدث عن فاعلية حليب الإبل في التخفيف من أعراض التوحد لدى الأطفال إذ يحتوي على نسبة عالية جداً من مضادات الأكسدة وفيتامينD، بالإضافة إلى خليط من المعادن التي أثبتت كثير من التجارب فاعليتها في التخفيف من حدة الأعراض.
في هذا السياق يُذكر أيضا أن كثيراً من الباحثين يعلقون آمالاً واسعة على علاج التوحد باستخدام الخلايا الجذعية، وهو أمر مازال قيد البحث حتى كتابة هذه السطور.