ربما أعاد عباس حساباته في ما يتعلق بالتهديد بقطع التنسيق الأمني أمام أهم منصة دولية في العالم، فهذا التهديد الذي يُعتبر الأكثر تكراراً لدى القيادة الفلسطينية في السنوات الثلاث الماضية، يضع حياة السلطة على المحك.
وتحول التنسيق الأمني الذي وصفه الرئيس الفلسطيني أكثر من مرة بـ"التنسيق الأمني المقدس"، إلى آخر بطاقة حمراء يهدد بها عبر المنابر المختلفة، بعدما لم تترك له سياسة إدارة دونالد ترامب ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خياراً آخر، وأوصدت خريطة "صفقة القرن" نفق "المفاوضات" التي كان يعوّل عباس على ضوء حولها، ولو خافتاً، في نهايته طوال الـ15 سنة الماضية.
وترى أوساط سياسية فلسطينية أن التهديد بوقف الاتفاقيات الدولية وقطع التنسيق الأمني مع الاحتلال تكرر خلال السنوات الأربع الماضية، سواء على شكل قرارات للمجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين، وفي خطب الرئيس وتصريحاته، بحيث أفقد التكرار التهديد معناه.
وتعتبر أوساط "فتحاوية" أن الانفكاك من الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، ولا سيما التنسيق الأمني، ليس مستحيلاً، بل يحتاج إلى إرادة سياسية أولاً، وتعبئة وطنية عالية للشارع الفلسطيني، وتفكيك طبقة فلسطينية ارتبطت مصالحها مع الاحتلال، وهذا الأمر يحتاج إلى "حزم ووقت طويل".
والتنسيق الأمني ليس مصطلحاً من كلمتين، بل علاقات فلسطينية – إسرائيلية أمنية وسياسية ومدنية واقتصادية متشابكة، ورزمة من الامتيازات الفردية والمؤسساتية التي تجذرت منذ اتفاقية أوسلو 1993، بحيث لم يعد الفكاك منها يتطلب مجرد قرار من رأس القيادة، لأن جبلاً من جليد التعقيدات والمصالح المتشابكة لطبقة فلسطينية كاملة يختفي تحت سطح هذا المصطلح.
ومن المعروف أن هناك أنواعاً للتنسيق، فمنها التنسيق المدني والعسكري والأمني، حيث بقي الأخير غامضاً، ولا يجد من يُقدم تفسيراً واضحاً لماهيته، فيما يتهرب قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية من إعطاء أي تفسير لحقيقة هذا التنسيق وما يترتب عليه. وتمتنع المؤسسات السياسية السيادية من نشر ملحقات اتفاقية أوسلو التي تناولت التنسيق الأمني على صفحاتها الإلكترونية.
ويؤكد المسؤولون الفلسطينيون أن التنسيق مع الاحتلال يطاول جوانب حياة الفلسطينيين كافة، مواطنين وقيادة، من تنقل وعلاج وعمل، وتنسيق لكل ما تستورده وتصدره السلطة من أجهزة ومواد طبية وزراعية وتعليمية وغيرها، حيث يوجد في مقر الإدارة المدنية لإدارة شؤون الضفة الغربية المحتلة في مستعمرة "بيت إيل" شمال محافظة رام الله والبيرة، أكثر من 20 ضابط ارتباط إسرائيلياً متخصصين في كل المجالات. وعلى سبيل المثال، هناك ضابط إسرائيلي للصحة يجري التنسيق معه في كل ما يتعلق بالحوالات الطبية إلى المستشفيات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. ولا تتحرك سيارة إسعاف عبر الحواجز الإسرائيلية وبين المشافي الفلسطينية والإسرائيلية إلا بقرار منه. وينسحب الأمر على وجود ضباط متخصصين في السجل السكاني الفلسطيني "المواليد والوفيات"، التعليم، البيئة، الزراعة، المواصلات، الاقتصاد، البنية التحتية، المخططات الهيكلية وغيرها، حيث يوجد في كل مؤسسة فلسطينية مسؤول فلسطيني مهمته لقاء ضابط الإدارة المدنية المختص بوزارته لإصدار التصاريح وتسهيلات العمل المتعلقة بوزارته.
ويُعرّف المتحدث باسم هيئة الشؤون المدنية وليد وهدان، التنسيق المدني، بقوله إن "هذا يعني كل ما يتعلق بالمؤسسات والمواطنين في الشؤون الحياتية اليومية ذات الطابع المدني، من علاج وصحة وتعليم وحركة، والبنية التحتية واستيراد وتصدير كل ما له علاقة بالشق المدني للمواطنين يكون تحت صلاحيات الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية".
ويضيف وهدان، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "التنسيق العسكري يتولاه الارتباط العسكري الفلسطيني، وله علاقة بالمواضيع العسكرية ذات البعد الأمني". أما التنسيق الأمني، فيقول: "لا أعتقد أن هناك شيئاً آخر غير التنسيق العسكري والمدني، ولا يوجد أي جسم آخر له علاقة بالتنسيق غير هذين الجسمين العسكري والمدني".
ونجح الاحتلال منذ اتفاق أوسلو 1993، الذي نصّ على وجود سلطة مؤقتة للفلسطينيين مدتها خمس سنوات، كان يجب أن تنتهي بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 بعد انتهاء المفاوضات على ملفات الحل النهائي، في إغراق طبقة فلسطينية سياسية وأمنية واقتصادية بالامتيازات والتسهيلات التي يفتقر إليها الشعب الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، يستطيع أي مسؤول فلسطيني لديه بطاقة رجل مهم من الدرجة الأولى أن يقود سيارته عبر "جسر الكرامة" إلى الأردن، في الوقت الذي يحتاج فيه أي فلسطيني في يوم عادي إلى ست ساعات للوصول إلى الأردن، أو إلى يوم كامل في أيام الصيف حيث ذروة الازدحام، فضلاً عن خضوعه لأكثر من 10 نقاط تفتيش، وتنقله بنحو ست حافلات بين نقاط التفتيش الفلسطينية والإسرائيلية والأردنية والعكس.
ويستطيع من يحمل ذات البطاقة "VIP1"، أن يقود سيارته مع مرافقه، متخطياً الحواجز العسكرية الإسرائيلية، ويدخل إلى القدس المحتلة أو فلسطين المحتلة عام 1948، بينما لا يستطيع مئات آلاف الفلسطينيين فعل الأمر ذاته، لاشتراط الاحتلال حصولهم على تصريح يمكّنهم من الدخول عبر الحواجز في رحلة انتظار تستمر ساعات طويلة، هذا إذا نجحوا في استصدار تصريح من الاحتلال. ويُحرم مئات آلاف الفلسطينيين التصاريح بسبب نشاطهم السياسي حالياً، أو سجلهم بالمقاومة سابقاً ضد الاحتلال، أو بسبب صلة قرابتهم بشهداء أو أسرى.
وهذه الامتيازات مختلفة المستويات، وتستهدف الوزراء، أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أعضاء اللجنة المركزية لحركة "فتح"، قادة الأمن وكبار الرتب والمسؤولين، بعض رؤساء البلديات، التجار ورجال الأعمال، بحيث يفصلهم عن بقية الشعب الفلسطيني حاجز كبير اسمه الامتيازات.
ولأن الاحتلال يُعطي ليسيطر ويأخذ ليسيطر، من الصعب النظر إلى أنواع التنسيق بمعزل عن بعضها البعض، والاحتلال يمنح هذا الكمّ من الامتيازات والتسهيلات بشكل غير مدروس.
ولم يُسجل أن مسؤولاً فلسطينياً رفض بطاقة رجل مهم "VIP" بكل مستوياتها، بل إن إسرائيل تسحب البطاقة أو تلوي ذراع المسؤول أو عائلته خلال السفر عبر تأخيره، عقاباً له على تصريح مستفز ضد الاحتلال. وحتى بعد أن منعت السلطة الفلسطينية التحويلات الطبية إلى المستشفيات الإسرائيلية، حصل قادة كبار من حركة "فتح" وعناصر من أجهزة الأمن على هذه التحويلة الطبية التي أوقفتها السلطة احتجاجاً على قرصنة إسرائيل أموال عائدات الضرائب في فبراير/ شباط 2019.
وحول الفرق بين المستوى الأول والثاني للبطاقة، يشرح وهدان أن "الأول، أي VIP1، يستطيع الوصول إلى الداخل، أي الأراضي المحتلة عام 48 بسيارته، وإلى القدس، ويكون معه مرافق، وتسهيلات على جسر الكرامة، والسفر عبر المطار الإسرائيلي. وهذا المستوى الأول بالعادة يُعطى للوزراء وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح، أما VIP2، فلا يسافر عبر المطار، بينما لديه تسهيلات في الخروج على الجسر، ولديه تصريح صفر صفر، أي يستطيع المكوث في الداخل".
لكن هل ما سبق هو التنسيق الأمني الذي قصده الرئيس الفلسطيني في كلمته أمام مجلس جامعة الدول العربية أخيراً، مخاطباً إسرائيل والولايات المتحدة، حين قال: "أنا اليوم بقدر أشتغل... بقدر أحمي، بقدر أقول كلمة، بقدر أجيب لك معلومة عمرك ما بتحلم تجيبها... هلأ (الآن) أنت نقضت هذه الاتفاقيات، فتحمّل المسؤولية".
المقصود بالتنسيق الأمني هو التعاون الاستخباري المعلوماتي وتبادل المعلومات مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، "الشاباك" بالدرجة الأولى، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه". وعلى صعيد التعاون الأمني مع الاحتلال، صُمِّمَت شبكات حواسيب مرتبطة مع حواسيب الاحتلال، وفي حال إصابتها بخلل، يُصلحها ضباط أميركيون، وليسوا فلسطينيين، وهذا ما أرساه الضابط الأميركي كيث دايتون منذ عام 2005، ولا يزال سارياً حتى الآن، بحسب مصدر أمني تحدث مع "العربي الجديد".
ويشير المصدر إلى أنه "مقابل المعلومات الاستخبارية التي تقدمها بعض الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية إلى الاحتلال ومنع مهاجمة المستوطنين، فإن أجهزة الأمن الإسرائيلية تفكّك وتلاحق أي خلايا عسكرية وسياسية لأحزاب سياسية، مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية"، وتحديداً "حماس" حتى لا يتكرر سيناريو قطاع غزة عام 2007 في الضفة الغربية من سيطرة لهذه الحركة".
ورفضت وزارة الداخلية الفلسطينية إجراء أي مقابلة مع "العربي الجديد"، لإعطاء معلومات عن ماهية التنسيق الأمني، ومدى صحة وجود شبكة حواسيب فلسطينية - إسرائيلية - أميركية مرتبط بعضها ببعض، ويمُنع الفلسطينيون من إصلاحها في حال تعرضها لأي خلل.
ونجح المنسق الأمني الأميركي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية دايتون، خلال سنوات عمله، في إعادة تفكيك الأجهزة الأمنية الفلسطينية وإعادة ترتيبها وفق عقيدة أمنية، جوهرها وجود رجل أمن فلسطيني منزوع العداء لإسرائيل، ومهمته تتمثل بحفظ النظام والأمن فقط، وصدّ أي تظاهرات أو مبادرات فردية من شأنها أن تضرّ بأمن إسرائيل ومستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة.
وكان دايتون قد استشهد في محاضرةٍ له في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط في السابع من مايو/ أيار 2009 باقتباس من رجل أمن فلسطيني خلال تخريج دفعة رجال أمن فلسطينيين حيث قال الأخير: "أنتم يا رجال فلسطين قد تعلمتم هنا كيف تحققون أمن الشعب الفلسطيني وسلامته، ولم تأتوا هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل".
وفي ذات المحاضرة المنشورة باللغتين العربية والإنكليزية على موقع المعهد، أشاد دايتون بـ"قدرة الأمن الفلسطيني على ضبط التظاهرات التي اندلعت في الضفة الغربية، وأجهضت أي محاولة لانتفاضة ثالثة، وحوّلت العنف بعيداً عن الإسرائيليين، وشعر الإسرائيليون بأن بإمكانهم الوثوق بالأمن الفلسطيني ونقل القسم الأكبر من قواتهم إلى غزة خلال عملية الرصاص المصبوب في يناير/ كانون الثاني 2009".
وكانت فكرة الإصلاح الأمني الأميركية الإسرائيلية لأجهزة أمن السلطة قد اقتُرحت كوسيلة لإنهاء سيطرة الرئيس الراحل ياسر عرفات على الأجهزة الأمنية التي انخرط جزء كبير من عناصرها في "هبّة النفق" عام 1996 والانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، ووقع المئات منهم ما بين شهيد وأسير وجريح، ما استدعى العمل على تغيير العقيدة الأمنية لهذه الأجهزة منذ عام 2005.
وطالب عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" ناصر القدوة، قبل أيام خلال مؤتمر صحافي، بـ"إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وتغيير عقيدتها الأمنية، وتغيير قدراتها ومهامها"، مشدداً على أنه "يجب أن يكون هذا أمراً جاداً".
الرئيس الفلسطيني صرّح بشأن قطع العلاقات الأمنية، خلال زيارته لمقر جهاز المخابرات الفلسطينية في رام الله في الثالث من شهر فبراير/ شباط الحالي، قائلاً إنه "ما دامت أميركا وإسرائيل مصممتين على الخطة اللئيمة التي وضعتاها لنا، فإننا قررنا قطع العلاقات معهما، وأولها هي العلاقات الأمنية، وفعلاً، جنّ جنونهم، لأنهم يعرفون العمل الذي تقومون به، في خدمة السلام العالمي والأمن العالمي". وتابع في تصريحات نشرتها الوكالة الرسمية "وفا": "وكثيراً ما سمعت من أهم دول العالم الشكر والتقدير والاحترام لهذا الجهاز المهني الذي يعمل بجدية وإخلاص يعادلان أهم الأجهزة في العالم".
لكن على الرغم من هذه التصريحات، إلا أنّ من الواضح أنّ هذه العلاقات لم تُقطع بعد، حيث لا يزال التنسيق المدني والعسكري كما هو لم يتأثر، ما يطرح سؤالاً مهماً، هو: لماذا تقدم إسرائيل امتيازات وتسهيلات لمسؤولي السلطة الفلسطينية، بما فيها تصريح تنقل الرئيس الفلسطيني من بيته في البالوع إلى "جسر الكرامة"، حيث الطريق إلى الأردن، ومنها إلى كل العالم، إذا كانت السلطة قد توقفت عن التنسيق الأمني؟ أما السؤال الثاني الذي يطرح نفسه، فيتعلق بماهية نطاق العمل الأمني للمخابرات الفلسطينية، حتى تشيد بها دول العالم، على حدّ قول عباس.
وإلى جانب التنسيق المدني المذكور سابقاً، هناك التنسيق العسكري الذي رفض اللواء جهاد الأعرج، رئيس الارتباط العسكري، الرد على اتصالات "العربي الجديد" ورسائله، للاستفسار عن ماهيته.
وأبرز ما يعرف عن التنسيق العسكري، هو الرمز "صفر صفر"، حيث ينسحب عناصر الأمن الفلسطينيون من الشوارع والطرقات بعد تلقيهم هذا الرمز من الاحتلال، ومفاده أن هناك مهمة أمنية لجيش الاحتلال في المكان. وعادة ما تكون هذه المهمة اعتقالاً أو اغتيالاً يستمر ساعات عدة، من دون أن تظهر قوات الأمن وسلاحها في الشوارع، منسحبة بموجب هذا الرمز إلى مقارّها الأمنية، بحسب ما يشرح أحد ضباط الأمن لـ"العربي الجديد".
ولا تبدو هذه المعلومات سرية، حيث يعرف أي مواطن فلسطيني أن انسحاب الأمن الفلسطيني من الشوارع يعني أن هناك ليلة صعبة في المكان: إما اقتحام أو اغتيال للاحتلال، كما هو عليه الأمر عندما يقتحم مئات من الجنود الإٍسرائيليين مدينة نابلس كل شهر لحماية المستوطنين الذين يقيمون شعائر دينية في "مقام يوسف"، بهدف الاستيلاء عليه لاحقاً.
ويقول أحد ضباط الأمن الذي اشترط عدم ذكر اسمه لـ"العربي الجديد"، إن الارتباط العسكري يستصدر التصاريح من الاحتلال للعسكريين. على سبيل المثال، تنقل السيارات العسكرية الفلسطينية وعناصر الأمن على الحواجز العسكرية الإسرائيلية أو في مهمات لإلقاء القبض على الفارين من العدالة من مناطق السلطة "أ" و"ب" إلى مناطق "ج"، حيث السيطرة الإسرائيلية تستوجب تصريحاً، وهناك تصاريح لقادة الأجهزة الأمنية وأصحاب الرتب الأمنية وكبار العساكر للمرور عبر الحواجز بتصريح مرور، دون أن يكون حاصلاً على بطاقة "ممغنطة".
والبطاقة "الذكية" أو ما يطلق عليها فلسطينياً "الممغنطة"، بطاقة يحصل عليها الفلسطيني بعد تقديمه طلب تصريح حيث يخضع لفحص أمني، وعادة مقابلة شخصية، مع ضابط ارتباط الاحتلال للتأكد أنه لا يشكل تهديداً على الأمن الإسرائيلي، وتُحفَظ بصمة العين والأصابع العشرة في سجله، لتكون هذه البطاقة تمهيداً لتقديمه لتصريح عمل أو علاج لاحقاً.