لا تلوح في الأفق القريب بوادر تهدئة في الشمال الشرقي من سورية أو ما بات يُعرف بمنطقة شرقي نهر الفرات، إذ لا يزال الصراع في ذروته لتثبيت خارطة السيطرة النهائية في المنطقة التي باتت ميدان تنافس لا يكاد ينتهي بين أغلب الفاعلين الإقليميين والدوليين في المشهد السوري الذين يدركون أهمية المنطقة اقتصادياً وجغرافياً، ما يدفعهم إلى المناورة العسكرية والسياسية والتحايل على التفاهمات لفرض حقائق على الأرض يصعب تجاوزها. وحاولت فصائل المعارضة السورية إحداث اختراق كبير من خلال التوغل جنوباً والسيطرة على بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي، إلا أنه لم يكتب للمحاولة النجاح، إذ وجدت صدّاً من "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تدرك أهمية البلدة في سياق الصراع المحتدم منذ التاسع من الشهر الماضي، حين بدأت العملية العسكرية التركية لإبعاد هذه القوات عن الحدود السورية التركية وتقويض محاولات فرض إقليم ذي صبغة كردية في الشمال الشرقي من سورية.
وتسارعت التطورات العسكرية خلال اليومين الأخيرين، إذ قصف الطيران التركي مواقع لـ"قسد" في ريف الرقة الشمالي، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات من عناصر هذه القوات. وأكد المرصد السوري لحقوق الإنسان ومصادر محلية أن الطيران التركي استهدف مساء السبت وصباح الأحد "قسد" في محيط بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي والتي شهدت السبت اشتباكات ضارية بين هذه القوات و"الجيش الوطني" السوري المدعوم من الجانب التركي. وأكدت مصادر محلية مقتل وإصابة العشرات مساء السبت من عناصر "قسد" جراء القصف، مشيرة إلى أن الطيران التركي استهدف نقطة عسكرية قرب قرية الدبس غرب عين عيسى. من جهته، أكد موقع "بلدي نيوز" الإخباري المعارض مقتل العشرات من عناصر "قسد" في المعارك التي دارت للسيطرة على عين عيسى.
وأكد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن طائرات مسيّرة تركية استهدفت أمس الأحد مخيم عين عيسى وقرى أخرى في المنطقة شمال مدينة الرقة، وذلك مع انسحاب الفصائل الموالية لتركيا خلال الساعات الماضية من كل المواقع التي تقدمت إليها على مشارف عين عيسى، فانسحبت من المخيم وصيدا والمعلك ومواقع أخرى في المنطقة كانت قد سيطرت عليها عبر هجومها العنيف الذي بدأته السبت، أي أنها انسحبت لمسافة كيلومترين عن بلدة عين عيسى شمال مدينة الرقة، وذلك بعد استهداف مكثف من قبل "قسد". وأشار المرصد إلى أن مفاوضات بين الطرفين التركي والروسي أفضت إلى سحب عناصر الفصائل الموالية لتركيا إلى مسافة كيلومترين شمال قريتي صيدا والمعلك اللتين سيطرت عليهما الفصائل السبت.
وأكدت مصادر من "الجيش الوطني" لـ"العربي الجديد" وجود مفاوضات واتصالات مستمرة بين الروس والأتراك حول تطبيق بنود الاتفاق الذي وقّع أخيراً بين الطرفين، والقاضي بانسحاب "قسد" من الحدود السورية التركية. وقالت المصادر إن مفاوضات تدور بين الطرفين حول الهجوم الذي شنّه "الجيش الوطني" السبت بدعم جوي ومدفعي تركي، وتطلب تركيا انسحاب "قسد" من عين عيسى بشكل كامل، فيما تحاول روسيا إبقاء قوات الأمن التابعة لـ"قسد" في المدينة إلى جانب قوات النظام السوري.
وتُعتبر بلدة عين عيسى المعقل الرئيسي لقيادات "قسد"، وإدارات جناحها السياسي "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد). وشهدت البلدة التي تقع إلى الشمال من مدينة الرقة بنحو 35 كيلومتراً حركة نزوح باتجاه الرقة وبقية المناطق الخاضعة لسيطرة "قسد" شرق الفرات شمالي شرق سورية.
وساد الهدوء الحذر منطقة عين عيسى بعد معارك دامية جرت السبت، أدت إلى مقتل عدد من العناصر في طرفي الصراع، ولكن شبكة "الخابور" المحلية للأنباء قالت إن اشتباكات متقطعة بين "الجيش الوطني" السوري و"قسد" تدور في منطقة الشركراك في ريف الرقة الشمالي التي تضم واحدة من أكبر صوامع الحبوب في منطقة شرقي نهر الفرات. وادّعت وسائل إعلام تابعة للنظام أن قوات الأخير تصدت لفصائل المعارضة السورية المسلحة في منطقة عين عيسى، في حين أكدت مصادر متقاطعة، منها مقربة من الوحدات الكردية، الثقل الرئيسي في "قسد"، أن قوات النظام انسحبت من المعركة إلى داخل مقر اللواء 93 في ريف عين عيسى الجنوبي.
في غضون ذلك، اتهم المرصد السوري لحقوق الإنسان، المقرب من الوحدات الكردية، تركيا بالبدء بعملية تغيير ديمغرافي في المنطقة التي سيطرت عليها في شمال شرقي سورية الشهر الماضي والممتدة من تل أبيض في ريف الرقة الشمالي إلى رأس العين في ريف الحسكة الشمالي الغربي. وزعم المرصد أنه جرى نقل عدد كبير من السوريين من محافظة إدلب في شمالي غرب سورية إلى مدينة رأس العين.
وكان نزح أو هاجر عشرات آلاف المدنيين، خصوصاً من العرب والتركمان، مع بدء تمدد "الوحدات الكردية" على حساب تنظيم "داعش" في عام 2015، واتجه القسم الأكبر من المهاجرين إلى مدن الجنوب التركي، خصوصاً أورفة.
وتخطط تركيا، كما أكّد كبار المسؤولين، لإرجاع من يرغب من هؤلاء إلى مناطقهم مع استباب الأمن في المنطقة وتوفير الخدمات الأساسية. وفي السياق، نقلت وكالة "سانا" التابعة للنظام عن مصادر محلية أن الجيش التركي بدأ بإقامة قاعدة له شرق مدينة رأس العين بنحو 4 كيلومترات، مشيرة إلى أن هذا الجيش يقوم حالياً بتجهيز قطعة من الأرض بمساحة تتراوح بين 200 و250 دونماً، إذ شوهدت آليات هندسية عسكرية تقوم بتسوية الأرض ورفع سواتر ترابية عالية. وكان الجيش التركي قد سيطر على 100 كيلومتر من الحدود السورية التركية شرقي نهر الفرات والبالغة نحو 444 كيلومتراً. كذلك سيطر "الجيش الوطني" السوري على أراضٍ بعمق نحو 30 كيلومتراً، وهو لا يزال يحاول توسيع نطاق نفوذه في مسعى لدرء أي خطر من قبل "قسد" التي سلمت باقي الحدود للنظام والجانب الروسي، وهو ما جنبها مواجهة مع الجيش التركي الذي من المتوقع أن يقيم عدة قواعد عسكرية في المنطقة التي سيطر عليها خلال العملية العسكرية.
ومن الواضح أن الاتفاق التركي الروسي الذي أبرم الشهر الماضي حول منطقة شرقي نهر الفرات لا يزال يواجه عقبات، إذ لا تزال أنقرة تتوجس من "الوحدات الكردية" التي تحاول البقاء في صدارة المشهد في الشمال الشرقي من سورية بانتظار تسوية شاملة للقضية السورية.