10 نوفمبر 2024
التمجّد والمثقف "العضوي"
مررت، في أثناء زيارتي مدينة جينوى الإيطالية، بشارعٍ رئيسي يحمل اسم انطونيو غرامشي (1891 ـ 1937)، وهو أحد كبار مفكري إيطاليا الحديثين. وقد كان هذا المفكر/ السياسي من مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي، واعتقله الفاشيست بأمر من موسوليني سنة 1926، وظل مسجوناً حتى وفاته. وصرح المدّعي العام الفاشي إثر توقيف غرامشي "يجب أن يتم إيقاف هذا الدماغ عن العمل عشرين عاماً على الأقل".
كان غرامشي، وفي حياته القصيرة، غزير الإنتاج المعرفي. وتمحورت كتاباته على الهيمنة الثقافية، وضرورة تشجيع التنمية الفكرية للمثقفين القادمين من صفوف الطبقة العاملة، ما دعاه "المثقف العضوي". وركّز أيضاً على ضرورة تعليم العمال. كما كتب في التمييز بين المجتمعين، السياسي والمدني. إضافة الى محاور متعددة أخرى. ولكن معرفة غرامشي عربياً انحصرت بنظرية "المثقف العضوي" التي ما برحت تتردّد على لسان العارف، كما الأقل معرفة.
يُثيرُ هذا المرور بالاسم شيئاً من الإسقاطات التي ترتبط بالأحداث "السياسية" التي تعبرها المنطقة العربية، ودور مثقفيها "العضويين" في متابعتها، تحليلها، عكسها وتقديمها. فكم منهم ادّعى وصلاً بفكر غرامشي، واعتبر أنه "هو"، وربما لا أحد سواه، من قصد غرامشي بمثقفه العضوي. ومن الأكيد، فالعدد الأكبر منهم لم يقرأ غرامشي، أو على الأقل، لم يطّلع على الجزء العميق من فلسفته والتزامه. وبما أن الالتزام هو ما يُميّز مثقف غرامشي، يبدو أن هذا المفهوم حمّال أوجه في ممارسات بعض المثقفين عموماً.
من المنطقي أن يلاحق الإعلام الأحداث اليومية المتجددة، ويعالج الآني من المشكلات
والأزمات والظواهر. في المقابل، سمح لنفسه عربياً، في الأسابيع القليلة الماضية، بأن يسترسل في "التشنيع" وإعادة استنساخ ما يُمكن تسميته الخطاب الإعلامي المُنمّط الصالح لكل زمان ومكان. وفيما يخصّ التعرّض إلى هذا أو ذاك من السياسيين في السلطة، أو في المعارضة، فالجمل جاهزة الصنع وموضوعة في ثلاجة/ نملية الكتبة لا يستدعي إخراجها سوى دقائق من البحث في الحاسوب. وكما يفعل المتخصّصون في كتابة سيرة حياة الأعلام المتوفين حديثاً، حيث توجد لديهم سلسلة من سير ذاتية يُحضرونها مسبقاً للموت، مستندين إلى عمر الشخص المعني أو مرضه، فيبدو أن بعض الكتبة في المساحة التعبيرية العربية لديهم "ذخيرة" وافرةٌ من الشتائم الجاهزة، والتي يكفي أن يتم تعزيزها وجعلها جاهزة لملاءمة الشخص/ الدولة المستهدف ولمواءمة الحدث تفصيلاً وتأريخاً.
ممارسة منتشرة من المحيط إلى الخليج، يبدو أن لا مجال لتجاوزها أو تعديلها. في المقابل، بدا في الأزمة الراهنة في منطقة الخليج بأن لقمة العيش أو القناعة الإيديولوجية (وهل هناك من أبعاد إيديولوجية لما يحصل؟) تدفع بعض "المثقفين العضويين" ممن كانت لهم مساهمة في عملية التراكم الثقافي والمعرفي في الثقافة العربية، تدفعهم إلى استلال أقلامهم أو لوحات مفاتيحهم الإلكترونية، وكتابة نصوص إدانة وشجب، وربما أيضاً شتم وتخوين، و"كشف مؤامرات" كانوا هم وحدهم من تنبّه لها. وحتى يتم التمويه على هذا الاستزلام الحديث، يستغل بعضهم ذخائره المعرفية لإسقاطها على مقالاتٍ جاهليةٍ، لا يهدف من ورائها إلا الرضى وملحقاته. ومن المستحسن أن يكون هذا الرضى مشفوعاً ببعض عطاءاتٍ راسخة في إرث ثقافة البلاط.
الاصطفافات التي ميّزت، أخيرا، كتابات كثيرين في المنطقة العربية إذاً، أشارت أساساً إلى استقطاباتٍ مهنية لا فكرية، وقتيةٍ لا مستدامة، زبائنية، قابلة للتغيير الجذري والعكسي، وضحلة المستوى (حتى يكون التوصيف أقرب إلى اللباقة الكتابية) التعبيري والتفكيري والتنظيري. وكانت المقالات الصحافية والتعليقات المتلفزة التي هطلت، في الاسابيع الأخيرة، مؤشّراً خطيراً إلى ما آلت اليه حالة الإنتاج الاعلامي والفكري والمعرفي.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، من المفيد استعادة الماضي في مثل هذه الوقائع. ففي تسعينيات
القرن المنصرم، كان لمجلة عربية المضمون، باريسية المقر، أن تتعامل مع المسألة الصحافية بمفهوم الابتزاز المادي أو الإعلام التشهيري، سعياً إلى الاستمرار والاغتناء. ومن أشهر "منجزاتها" ما قامت به إثر غزو صدام حسين دولة الكويت، فقد خرج عددها "مُزيّناً" بصورة للديكتاتور مع عنوان "كلنا صدام". بعد ساعات قليلة، وصل عرضٌ سخيٌّ للتعديل، فتم سحب العدد من الأسواق، واستدعاء الصحافيين "الكبار" أنفسهم، ليعيدوا صياغة مقالاتهم التي كانت مليئة بالتخليد للقائد "العظيم" والتخوين للكويتيين، ليكتبوا عكس ذلك تماماً، وليصبح الغلاف "أين أخطأ صدام". مثّلت هذه الواقعة الموثّقة في المكتبة الوطنية الفرنسية أول حادثة في تاريخ النشر الصحافي الفرنسي، يصدر فيها عددان متناقضا المضمون مع صورة الغلاف نفسها ورقم الإصدار نفسه. بعض مثقفينا "العضويين" قادرون على تحقيق المعجزات.
وفي أن الاستبداد هو أصلٌ لكل فساد، فقد توقف عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902) عند ميل بعض النخب الى النفاق، معتبراً أن الاستبداد "يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد فيفسده، ويقيم مقامه التمجد".
كان غرامشي، وفي حياته القصيرة، غزير الإنتاج المعرفي. وتمحورت كتاباته على الهيمنة الثقافية، وضرورة تشجيع التنمية الفكرية للمثقفين القادمين من صفوف الطبقة العاملة، ما دعاه "المثقف العضوي". وركّز أيضاً على ضرورة تعليم العمال. كما كتب في التمييز بين المجتمعين، السياسي والمدني. إضافة الى محاور متعددة أخرى. ولكن معرفة غرامشي عربياً انحصرت بنظرية "المثقف العضوي" التي ما برحت تتردّد على لسان العارف، كما الأقل معرفة.
يُثيرُ هذا المرور بالاسم شيئاً من الإسقاطات التي ترتبط بالأحداث "السياسية" التي تعبرها المنطقة العربية، ودور مثقفيها "العضويين" في متابعتها، تحليلها، عكسها وتقديمها. فكم منهم ادّعى وصلاً بفكر غرامشي، واعتبر أنه "هو"، وربما لا أحد سواه، من قصد غرامشي بمثقفه العضوي. ومن الأكيد، فالعدد الأكبر منهم لم يقرأ غرامشي، أو على الأقل، لم يطّلع على الجزء العميق من فلسفته والتزامه. وبما أن الالتزام هو ما يُميّز مثقف غرامشي، يبدو أن هذا المفهوم حمّال أوجه في ممارسات بعض المثقفين عموماً.
من المنطقي أن يلاحق الإعلام الأحداث اليومية المتجددة، ويعالج الآني من المشكلات
ممارسة منتشرة من المحيط إلى الخليج، يبدو أن لا مجال لتجاوزها أو تعديلها. في المقابل، بدا في الأزمة الراهنة في منطقة الخليج بأن لقمة العيش أو القناعة الإيديولوجية (وهل هناك من أبعاد إيديولوجية لما يحصل؟) تدفع بعض "المثقفين العضويين" ممن كانت لهم مساهمة في عملية التراكم الثقافي والمعرفي في الثقافة العربية، تدفعهم إلى استلال أقلامهم أو لوحات مفاتيحهم الإلكترونية، وكتابة نصوص إدانة وشجب، وربما أيضاً شتم وتخوين، و"كشف مؤامرات" كانوا هم وحدهم من تنبّه لها. وحتى يتم التمويه على هذا الاستزلام الحديث، يستغل بعضهم ذخائره المعرفية لإسقاطها على مقالاتٍ جاهليةٍ، لا يهدف من ورائها إلا الرضى وملحقاته. ومن المستحسن أن يكون هذا الرضى مشفوعاً ببعض عطاءاتٍ راسخة في إرث ثقافة البلاط.
الاصطفافات التي ميّزت، أخيرا، كتابات كثيرين في المنطقة العربية إذاً، أشارت أساساً إلى استقطاباتٍ مهنية لا فكرية، وقتيةٍ لا مستدامة، زبائنية، قابلة للتغيير الجذري والعكسي، وضحلة المستوى (حتى يكون التوصيف أقرب إلى اللباقة الكتابية) التعبيري والتفكيري والتنظيري. وكانت المقالات الصحافية والتعليقات المتلفزة التي هطلت، في الاسابيع الأخيرة، مؤشّراً خطيراً إلى ما آلت اليه حالة الإنتاج الاعلامي والفكري والمعرفي.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، من المفيد استعادة الماضي في مثل هذه الوقائع. ففي تسعينيات
وفي أن الاستبداد هو أصلٌ لكل فساد، فقد توقف عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902) عند ميل بعض النخب الى النفاق، معتبراً أن الاستبداد "يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد فيفسده، ويقيم مقامه التمجد".