التلوث موت بطيء في سرت الليبية

25 يناير 2018
انتهت الحرب وتركت سرت منكوبة (محمود تركية/ فرانس برس)
+ الخط -
بعد أكثر من عام على تحريرها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، في حرب دامت أكثر من ثمانية أشهر، ما زالت مدينة سرت (شمال ليبيا في منتصف الساحل بين طرابلس وبنغازي)، تعاني مخلفات تلك الحرب، لا سيما التلوث الذي يسميه البعض بالموت البطيء.
الحياة عادت في أغلب تفاصيلها إلى المدينة، فمعظم السكان رجعوا إلى منازلهم، ومن وجد منزله مدمراً تدبّر أمره ليعيش مع أسرته، كما أنّ مدارسها عادت لاستقبال التلاميذ، وأسواقها ومحالها التجارية دبّت فيها الحياة، وفتحت المصارف.

على الصعيد الأمني، شكّل الأهالي فرقاً أمنية عُرفت باسم "قوة تأمين وحماية سرت"، تعمل بالتنسيق مع قوات "البنيان المرصوص"، التي تركت لهم وسط المدينة لترابط على مشارفها، لحمايتها من عودة متوقعة لمقاتلي التنظيم، أو من هجوم مباغت قد يستهدف السيطرة عليها كمكسب للواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي تتمركز قواته بالقرب من المدينة. على الرغم من هذا الاستقرار النسبي الظاهر، إلاّ أنّ المدينة ما زالت تئن من مخلفات الحرب، لينشأ عنها خطر إضافي يتمثل هذه المرة في تلوثها وما يترتب عليه من ضرر ومخاطر.

يلخص بلعيد المشري، أحد مسؤولي المجلس البلدي في المدينة، مظاهر هذا التلوث، في انتشار برك ومستنقعات الصرف الصحي التي تجمعت في أغلب أحياء المدينة، بسبب تضرر شبكات الصرف الصحي والبنية التحتية الخاصة بها، بالإضافة إلى انتشار ذخائر ومفخخات لم تنفجر بعد، تتسبب هي الأخرى في تلوث غير مرئي، كما أنّ المباني ما زالت ركاماً، مع تأكيد وجود جثث بالعشرات تحتها، تتحلل كلّ يوم، مخلفة آثاراً مضرة. يضيف: "ناشدنا كلّ سلطات البلاد لمواجهة هذه الأخطار، لكن من غير استجابة، ما اضطرنا إلى العمل بجهودنا الخاصة، فالفرق الأهلية تشكلت أكثر من مرة لرش ساحات المدارس بالمبيدات لطرد وقتل القوارض التي انتشرت فيها". يؤكد أنّ بعض الأهالي عملوا بشكل شخصي على نقل مقبرة جماعية عُثر عليها في ساحة إحدى المدارس. ويتابع: "بالرغم من نقل الجثث، فالمكان ما زال ملوثاً والمدرسة مقفلة، لكنّ السؤال: ماذا عن السكان المحيطين بتلك المدرسة؟ إنّهم يتسممون كلّ يوم، لا سيما الأطفال". يتساءل المشري مستنكراً: "من يتحدث عن أطفالنا الذين تعرّض بعضهم لبتر أعضاء وإعاقات بسبب الألغام التي تنتشر حتى اليوم في الساحات والأماكن العامة وداخل الأحياء"، مشيراً إلى أنّ المدينة تعيش نكبة لا تقلّ عن نكبة احتلال "داعش".

من جانبه، يؤكد كمال حسين، من فرع الهلال الأحمر في المدينة، أنّ المنظمة تبذل جهوداً بالرغم من إمكانياتها المحدودة، وقد وجهت نداءات إلى منظمات إنسانية دولية تحاول الآن إيصال مساعداتها للتخفيف من حدة أزمة المدينة التي يأتي التلوث من بينها. يقول: "خبراؤنا أكدوا أنّ الجثث المتحللة التي ما زالت تحت ركام المباني المدمرة بسبب كثافة القصف الجوي، تتسبب في نمو أنواع من البكتيريا، ووجود بعض التحولات الميكروبية التي من المؤكد أنّها نشرت أمراضاً الآن بين السكان". يشير إلى أنّ المراكز الصحية في المدينة سجلت أنواعاً من الطفح الجلدي غير المصنف ضمن الأمراض المستوطنة. يؤكد أنّ "هناك عدة إحصاءات ورصداً دقيقاً للأمراض في البلاد حد من إمكانية معرفة نتوج بعضها بسبب التلوث الذي تعيشه المدينة". ويلفت إلى أنّ أغلب الأهالي يلجؤون إلى مستشفيات في مدن بعيدة، ما يعدّ عرقلة أخرى لمتابعة ورصد الأمراض التي يمكن أن يسببها التلوث.

يتفق أسامة جاب الله، الطبيب في مستشفى "ابن سينا" مع ذلك، ويشير إلى تزايد حالات الخرّاج الجلدي بين الأطفال، ما يستحق اهتمام سلطات البلاد. يتابع: "الدمامل أو الخرّاجات ظهرت على كثير من الحالات التي استقبلت في المستشفى، وسببها التلوث ومخلفاته الناتجة عن انتشار أكوام النفايات المتكدسة على جوانب الطرقات"، معتبراً أنّ النفايات المتكدسة عامل آخر من عوامل التلوث الذي تعانيه المدينة. يؤكد جاب الله أنّ "إمكانيات المستشفى الوحيد الضعيفة تضطره أحياناً إلى ترحيل بعض الحالات إلى مدن الجوار لتلقي العلاج"، مشيراً إلى أنّ تلك الحالات جديدة سببها تلوث المحيط بالنفايات، لا سيما في الطرقات، وبين الأحياء حيث يلعب الأطفال.

يلفت المشري إلى أنّ محطة واحدة للصرف الصحي تعمل في المدينة حالياً من أصل ثلاث محطات. أما النفايات فجهاز البيئة والأشغال لا يملك سوى 12 سيارة من أصل 200 سيارة سرق معظمها أثناء الحرب، ويتوفر 18 عاملاً فقط من أصل 210 عمال أضرب معظمهم عن العمل بسبب عدم توفر رواتب. يعلق: "ماذا يفعل المجلس البلدي بهذه الإمكانيات المتواضعة، في مدينة يجري استغلالها كورقة سياسية، ويترك أهلها لموت بطيء قد يتحول في أي يوم إلى كارثة جماعية".
المساهمون