التقارير الرقابية الجزائرية...فساد راقد في أدراج الدولة العميقة

11 نوفمبر 2019
التقارير الرقابية حبيسة الأدراج في الجزائر (العربي الجديد)
+ الخط -
ينتفض أحمد شيخاوي رئيس نقابة قضاة مجلس المحاسبة، (هيئة رقابية مستقلة تصدر تقارير سنوية عن صرف المال العام في الجزائر)، ضد قرار تجميد راتب قاض خمسيني بولاية قسنطينة، شرقي العاصمة، بعد تحريره تقرير فساد ضد مسؤول هيئة محلية بالولاية.

وجرى توقيف القاضي تحفظيا عن العمل 6 أشهر بعد إيداع شكوى ضده لدى العدالة، كما يقول شيخاوي في إفادة لـ"العربي الجديد"، مضيفا "بعد انقضاء المدة جمد رئيس المجلس راتبه بداية شهر أغسطس/آب المنصرم، دون الأخذ بعين الاعتبار حصانة قضاة مجلس المحاسبة مضيفا: "المجلس أوقف 3 قضاة عن العمل منذ بداية السنة، وتوالي هذا النوع من القرارات يؤدي إلى زرع الخوف والريبة وسط القضاة".

وتصدر عدة هيئات في الجزائر تقارير رقابية حول صرف المال العام، من بينها الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته، التي أسسها رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2006، كما تعد المفتشية العامة للمالية أحد أهم الهيئات الرقابية لضبط صرف المال العام في الوزارات والمؤسسات والهيئات العمومية في الجزائر، وتتحرك بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان بغرفتيه، وفقا لما يوضحه البروفيسور في مجال الحوكمة الاقتصادية والخبير الاقتصادي عبد القادر بريش، مشيرا إلى أن آخر حصيلة للمفتشية العامة نشرتها وكالة الأنباء الجزائرية قبل عام، تحصي تحرير 330 تقريرا حول قضايا الفساد المالي سنة 2017.

وتصدر الهيئات الرقابية في الجزائر قرابة 1500 تقرير يرصد وقائع الفساد سنويا، إلا أن هذه التقارير تظل ضئيلة مقارنة مع حجم الفساد المنتشر في الجزائر، فالمحاكم لا تتلقى غير العشرات من بينها في حين يظل قرابة 1000 تقرير حبيس أدراج الدولة العميقة بحسب بريش.


إمكانيات محدودة

يعد مجلس المحاسبة أهم هيئة رقابية مقارنة مع الهيئتين سالفتي الذكر، نظرا لعدد تقارير الفساد التي يصدرها بشكل سنوي، كما يقول النائب عن حزب جبهة التحريرالوطني (موالٍ للسلطة) الهواري تيغريسي.

وتعرف المادة 192 من الدستور الجزائري مجلس المحاسبة بـ"الهيئة المستقلة المكلفة بالرقابة البعدية لأموال الدولة"، ويعتبر نقيب قضاة مجلس المحاسبة أن الإمكانيات المتاحة أمام المجلس عاجزة عن جعله يقوم بدوره كما ينبغي، محصيا وجود 174 قاضيا بالمجلس، منهم 140 قاضيا مكلفا بالتحقيقات، وهو رقم صغير مقارنة بالعدد الإجمالي للعمليات الرقابية والتي تعادل 1000 تقرير في العام، ووجود حوالي 50 ألف متقاض، ويتفق معه النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية لخضر بن خلاف، والذي ناقش تقرير مجلس المحاسبة السنوي العام الماضي مطالبا بتدعيم المجلس بالعنصر البشري الكافي والمؤهل خاصة القضاة، والذين كان عددهم قبل النقصان الكبير يصل حتى 500 قاض.

ولم تكن لملفات الفساد الكبرى المفتوحة مع بداية الحراك الشعبي في 22 فبراير/شباط الماضي، علاقة بتقارير مجلس المحاسبة، والتي دققت فقط بميزانيات وزارات وبلديات وهيئات محلية، ويكشف التقرير السنوي الأخير لمجلس المحاسبة والذي جرى نقاشه على مستوى البرلمان الجزائري شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018 والمكون من 100 صفحة، عن طريقة عمل المجلس التي تكتفي بالتدقيق في طريقة صرف المال وتقديم ملاحظات.

ويبين التقرير، بعض المخالفات التي ارتكبتها الوزارات والمتعلقة بعدم احترام مبدأ "التخصيص الميزانياتي"، وكمثال عن الملاحظات، انتقد مجلس المحاسبة تكفل وزارة النقل مثلا بالأعباء القضائية للهيئات المتواجدة تحت وصايتها، وتحدث التقرير أيضا عن عدم احترام مبدأ الترخيص، من خلال تبني تعديلات في الميزانية في غياب تحليل ودراسة للعواقب، وعلى سبيل المثال بلغت اعتمادات نفقات تسيير وزارة الداخلية 428.144 مليار دينار، (قرابة 3 مليارات دولار) في حين تم تسقيفها في حدود 351.970 مليار دينار (2.4 مليار دولار) وهنا يعلق شيخاوي قائلا: "هذه التقارير ترتبط فقط بالوزارات والبلديات، وتستثني الشركات الكبرى".



تستر على البعض وفضح آخرين

بقيت التقارير الرقابية في حقبة رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة حبيسة أدراج الدولة العميقة، ورغم أن توصيات مجلس المحاسبة المعروضة على البرلمان ذكرت بالأسماء والأرقام العديد من الوزارات، إلا أن العدالة لم تستدعها للتحقيق وفقا للقيادي والنائب البرلماني عن حركة مجتمع السلم (إسلامي معارض) ناصر حمدادوش، والذي قال لـ "العربي الجديد": "كانت التقارير تتسرب حسب موازين القوة، فكان يتم التستر على وزراء وفضح آخرين"، ويرد رئيس مجلس المحاسبة عبد القادر بن معروف، قائلا لـ"العربي الجديد" :"في حال تسجيل أية فرضية فساد يتم إحالة الملف على المجلس القضائي الإقليمي من طرف الناظر العام للمجلس، لتفتح عقبها العدالة تحقيقاتها"، متابعا "هنا ينتهي دور مجلس المحاسبة، ولا علاقة لنا بدور العدالة". ويعتبر رئيس مجلس المحاسبة أن عدم التوظيف في المجلس مرده إلى تعليمات الحكومة سنة 2015 بتوقيف كافة عمليات التوظيف والتي لا تزال مستمرة، مؤكدا "طلبنا منحنا استثناءات لتوظيف قضاة سنتي 2016 و2017 إلا أن طلبنا لم يلق الرد".


توقيفات للقضاة

تصف نقابة قضاة مجلس المحاسبة توقيف 3 من أعضائها عن عملهم منذ بداية السنة بـ "التضييق" ويقول شيخاوي "المادة 79 من القانون التنظيمي لمجلس المحاسبة تنص على أنه في حال توقيف القاضي تحفظيا عن العمل يستمر في تقاضي أجره كاملا"، إلا أن المجلس وفقا للمتحدث، لجأ إلى استئصال الحوافز والراتب لـ 6 أشهر للقاضي الموقوف بولاية قسنطينة شهر أغسطس الماضي، رغم أن القاضي لم يخضع للمحاكمة، كما تمت مراسلة رئيس مجلس المحاسبة عدة مرات وطلب تطبيق مبدأ الحصانة القانونية للقاضي، دون جدوى.

ويؤكد نقيب قضاة مجلس المحاسبة أن ما يزيد الوضع سوءا بالنسبة لطريقة تسيير مجلس المحاسبة، المضايقات التي يتعرض لها القضاة عند تحقيقهم مع مسؤولين نافذين.

لكن عبد القادر بن معروف يقول إن "عمليات التوقيف قليلة وتشمل فقط القضاة المتابعين قضائيا، وفي حال تمت تبرئتهم من طرف القضاء يعودون إلى عملهم بشكل عادي مصرحا "المجلس لم يسبق له أن مارس أي نوع من التضييق على قضاته"، لكن زين الدين حيرش، أحد القضاة الموقفين عن العمل خلال سنة 2019، قال لـ"العربي الجديد"، ساهمت في إنجاز 23 تقريرا بالمجلس، تتعلق بمؤسسات كبرى قبل عدة سنوات وهي تحقيقات مرتبطة بديوان الحبوب ومؤسسة البريد ومؤسسات كبرى، "إلا أن هذه التقارير تظل إلى اليوم حبيسة أدراج مجلس المحاسبة منها تقارير أعدت قبل 10 سنوات".

استثناء قضية شركة سوناطراك

يكشف رئيس مجلس المحاسبة عبد القادر بن معروف عن إعداد 1000 تقرير من طرف مجلس المحاسبة خلال سنة 2019، حوالي 600 تقرير متعلق بتدقيق الميزانيات والوضع المالي و400 تقرير بنوعية التسيير داخل المؤسسات، في حين تمت إحالة 15 تقريرا يتعلق بشبهة الفساد في قضايا التسيير المحلي والصفقات العمومية على القضاء.

ويؤكد رئيس المجلس أن الغرف الوطنية والإقليمية (فروع مصغرة لمجلس المحاسبة) والتي يبلغ عددها مجتمعة 17 غرفة تقترح أسماء الهيئات والمؤسسات التي ستكون محل تحقيق في برنامج عملها السنوي، ولم يسبق للمجلس أن مارس أي نوع من الضغوط لرفض التحقيق في أي ملف، معلقا بشأن استثناء قضية شركة سوناطراك من تدقيق مجلس المحاسبة "القضاء فتح ملف سوناطراك منذ سنوات، والجميع يعلم أن دور المجلس التدقيق في المؤسسات التي لم يفضحها القضاء بعد".

وشدد بن معروف على أن مجلس المحاسبة الهيئة الوحيدة التي تقدم تقريرها السنوي لرئيس الجمهورية وتضع ملاحظاتها بشأنه، مضيفا "هناك مفتشية المالية، ديوان وهيئة مكافحة الفساد وهناك ملاحظات الآمرين بالصرف في الخزينة والمراقبين الماليين، لذلك فعمل المجلس يجب أن يكون بالتنسيق مع هيئات أخرى".


الفساد في عهد بوتفليقة

تثير طريقة عمل مجلس المحاسبة الكثير من الانتقادات، منها الصلاحيات الضيقة للقضاة، وتدخل جهات نافذة في الحكم لإبقاء التقارير حبيسة أدراج المجلس، واعتماد طابع السرية وعدم نشر التقارير أمام الرأي العام، حسب المحامي فاروق قسنطيني.

ويؤكد المحامي ورئيس اللجنة الاستشارية لحماية وترقية حقوق الانسان سابقا، قسنطيني في إفادة لـ"العربي الجديد" أن الفساد في عهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة وصل لمستويات لم يتصورها أحد، وكل ذلك أثر على طريقة عمل مجلس المحاسبة.

وقدم فاروق قسنطيني شهادته بخصوص هذه الهيئة قائلا: "مجلس المحاسبة قام بدوره لكن للاسف كان مهانا من طرف بعض المسؤولين"، ويعترف رئيس مجلس المحاسبة بتقديم تقرير مجلس المحاسبة بشكل سنوي لرئاسة الجمهورية، لكن التقرير نشر عامي 1997 و1998 فقط في الجريدة الرسمية، وكانت هذه آخر مرة، مضيفا "رئيس الجمهورية المخول الوحيد لإعطاء الأوامر بنشر التقرير، نحن كمجلس قمنا بواجبنا".

وبينما يتوقع قسنطيني تغير طريقة عمل المجلس في الجزائر بعد حراك 22 فبراير، وإعادة الاعتبار لهذه الهيئة والشروع رسميا في إصدار التقرير السنوي لمجلس المحاسبة، يبدي رئيس مجلس المحاسبة بن معروف تفاؤله بصدور التقرير السنوي لسنة 2019 في الجريدة الرسمية بعد غياب دام 20 سنة.