كأن الروائي التشيكي ميلان كونديرا قد نسي إضافتنا إلى روايته "المزحة". والمسألة هنا مسألة وقت لا أكثر، إذ إن تجربتنا تصلح لأن تكون مجرّد مزحة، منذ كان لبنان وحتى اليوم. لو أنه وجد لنا مكاناً إلى جانب لودفيك وماركيتا وآخرين، فلربّما اقتنعنا بأن نكون جزءاً من صفحات، وملهمين لقرّاء حول العالم، من دون أن نتحول نحن إلى مجرد متفرجين على أنفسنا، وقد ظنّنا أن كل ما عشناه وأسلافنا خلال سنوات طويلة مضت، حقيقة!
أراد بطل الرواية لودفيك التأثير في ماركيتا الفتاة التي تثير إعجابه، وقد أرسل لها رداً بسبب غيظه منها رغبة في إثارة غضبها والسخرية منها. قال: "التفاؤل هو أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي! لودفيك". هذه المزحة قلبت حياته رأساً على عقب، بعدما عرف زملاؤه في الحزب الشيوعي واتحاد الطلاب بها، واعتُبِرت أنها عدائية للشيوعية.
والمزحة، هي نشأة لبنان، وكلّ ما قيل فيه، والثورات، والحروب، والقضايا، والأفلام المصرية التي صورت مشاهدها فيه، وحبّ الحياة. أحبّ اللبنانيون الحياة فعاشوا في فقاعة خلقتها الأنظمة السياسية المتعاقبة والسياسة الاقتصادية، وأخفت كل هذا في مشاريع مثل "سوليدير" وغيرها وغيرها. ظنّنا أننا قادرون على "العيش" والسفر والاستمتاع بالحياة، مع نضالات حقوقية من هنا وهناك، من دون أن نصدّق أنه سيكون هناك عواقب وخيمة للمزحة، تلك التي نعيشها اليوم.
ينقصنا فقط أن نغادر بيوتنا وننتقل إلى الكهوف، ونهدم المباني ونترك الأشجار تستولي على مدننا مجدداً، ونعتاش مما تعطيه لنا. و"التغيير" الذي حلمنا به، و"الحريات" التي نسعى إليها، ولقمة الخبز التي نخاف أن نخسرها، تصير مجرد أكاذيب تنتجها المزحة. كونديرا راح يتساءل عن كم يمكن للإنسان أن يكذب على نفسه باسم شعارات مثل "المجد للعمل، البروليتاريا، تغيير العالم...". وطرح الوجه المأساوي الذي يرسم صراع الإنسان مع العالم، وآخر يضحك لهواً من عبث الحياة.
عبثوا فينا طويلاً. لم نعد نتحدث عن الأحلام الكبيرة والحقوق وتلك العبارات التي لن نفهمها بعد اليوم. لنقل إنهم داسوا البديهيات، حين نهرع بمجرّد توفر التيار الكهربائي (مدة ساعة أو ساعتين) إلى تسخين المياه وغسل الملابس وكيّها.
أسمع المصرّين على التغيير ولا أفهم كلماتهم. فقط لا أفهم. هل تكون المشكلة في قدراتي العقلية؟ ويستفزني المتفائلون، وأولئك الذين ما زالوا قادرين على الكتابة وتصويب الأخطاء. لكننا في الحقيقة، نصوّب مزحة ثقيلة.
كأنّنا كنا نقاوم مبيدات بشرية ترمي لنا سموماً تلو أخرى، وقد بتنا عاجزين عن الحركة، مثل لحظات الصراصير الأخيرة. فليحاسب مُطلق هذه المزحة. أو أن ذلك لم يعد مهماً، فقد فات الأوان. وَصدَقَ لودفيك، إذ إن "التفاؤل هو أفيون الجنس البشري".