التعليم العمومي... قصة أقدم مريض في غرفة الإنعاش

20 سبتمبر 2018
+ الخط -
"كنا تلاميذ صغارا وهادئين نحملق بأعيننا البريئة في لحظة تراخ وكسل. فجأة دخل المدير قاعة القسم ثم سرعان ما انخرط الجميع في صمت مطلق بين مشاعر الخوف والارتباك، نظر المدير في وجوهنا المتعبة بغضب شديد، ثم بدأت أساريره تنفرج شيئا فشيئا فاقترب منا أكثر وبدا يحدثنا بلطف أبوي نادر: اسمعوا يا أبنائي الأعزاء، الدراسة مثل الأرض كلما اعتنيت بها أكثر كانت كريمة ورحيمة بك وأعطتك المزيد من زادها وأسرارها". ثم همس المدير للمعلم ببعض الكلمات الغامضة في أذنيه وغادر مسرعا كالعادة.

في الحقيقة قد يكون من غير اللائق الآن وهنا إشعال جذوة الحنين إلى المدرسة بعوالمها وشخوصها لكن لا أحد منا يسلم من هذا الداء الجميل.. نعم بالتأكيد، ولكن ومع إحساسنا الجماعي بالمرارة نرى اليوم أن المدرسة المغربية تغرق في الرداءة والتخلف والجمود رغم المجهود الإنساني والتربوي الذي يبذله مئات الآلاف من المدرسين والمدرسات في كل بقاع البلاد وعلى مر الفصول دون أن ننسى من يشتغل في مناطق نائية ومعزولة آو في ظروف قاسية جدا تصعب حتى على التصور.

طيلة العقود الماضية المشحونة بالأزمة الاقتصادية والتوتر الاجتماعي وكافة أشكال الارتجال والتجريب العشوائي تبادلت المدرسة العمومية والمجتمع شحنات من التأثير السلبي المتبادل حيث توقف النظام المدرسي عن تصدير القيم والكفاءات والثروات والرساميل المعرفية باتجاه المجتمع، كما تأثرت المدرسة نفسها بالأزمة المجتمعية الشاملة وصارت مسرحا تدور في رحاه كل التناقضات والصراعات وتشوهات المجتمع الأخلاقية والسلوكية وترهل الضمير الجماعي العام الذي اتسم باللا مبالاة الحمقاء والإفلاس.


لذلك لا غرابة إذن وبسبب سيرورة التجريب الفاشل أن يصبح عالم المدرسة حقلا للألغام البشرية وبنية للتناقضات الصارخة الخارجة عن كل تأطير أو توقع، والتي تشوش على الصورة النموذجية للمدرسة في وجداننا ومخيلتنا، وتفجر كل مظاهر الهذر والجمود واللا مبالاة والعنف تجاه المدرسين والقائمين على الفعل التربوي والتلاميذ أنفسهم.

لقد تغنت الحكومات دون استثناء طويلا بالإصلاح وأوهامه، لكن خلف تلك الخطابات المتواطئة والممجدة له كان يختبئ وحش فتاك بين صفحات الكتاب المدرسي والمذكرات الوزارية "العقيمة".

وهكذا أسفر "مسلسل الإصلاح" الطويل والباهظ عن منظومة تربوية مشوهة بلا ملامح وبلا هوية وبلا أفق عدا عشرات الآلاف من الضحايا ممن يلتحقون سنويا بنادي المحتجين والهامش الاجتماعي.

إن الحالة الاجتماعية المزرية لأغلب الأسر المغربية في المدن والأحياء الفقيرة ذات الكثافة السكانية وفي القرى والمداشر والجبال، حيث البؤس والاغتراب والكبت الاجتماعي والفقر الذي أصبح قدر مئات الآلاف من البشر، وحيث يفتقد السكان لأبسط شروط الحياة والخدمات الدنيا والأساسية، تجعل التفكير في المدرسة أو الذهاب إليها عملا غريبا ومتعذرا وعبثيا.

لقد ظلت أغلب البرامج "البيداغوجية" شكلية ومتسرعة بعيدة عن المعيقات والحاجات الحقيقية التي بإمكانها إحداث التغيير المنشود، تزامن ذلك أيضا مع أزمة بنيوية في التخطيط والبرمجة وتكييف المضامين المستوردة مع حقيقتنا المجتمعية وفي مجال التمويل، حيث إن اغلب المشاريع فارغة ولا وجود لها على أرض الواقع، مما ساهم في إهدار الميزانيات والجهود وإضاعة الزمن التربوي والإداري والإنساني.

كما أن الطابع غير المتجانس والتمييزي المهين للنظام التعليمي يبدو كعلامة فارقة ومخجلة في الوقت الذي يتم فيه استهلاك مفاهيم العدالة والمساواة والتنمية البشرية وحقوق الإنسان.

إن هذه المنظومة المبنية على حماية سلالات أبناء الأثرياء والمحظوظين وتخصيصهم بتعليم عصري مفتوح على كل إمكانات الجودة والفعالية والارتقاء والرفاه الاجتماعي، لذلك ليس غريبا أن تتحول معه الجامعات والمعاهد الراقية ومدارس البعثات الأجنبية إلى أندية مغلقة لإعادة إنتاج الثراء والامتيازات وتقاسم الفرص والمناصب والغنائم الاقتصادية في قطيعة تامة ومخزية مع المجتمع الذي بدا كأنه يحتضر ويقتل نفسه باستمرار.

إن كرامة الإنسان المغربي المهدورة ومستقبل الأجيال القادمة يبدأ حتما من نظام اجتماعي وتربوي عادل ومتكافئ وديمقراطي.
5F69AA17-CB49-48E9-916C-D80C5B605D10
بن أموينة عبد اللطيف

شاعر وناقد إعلامي مغربي ومحرر مقالات رأي، حاصل على ماستر علم النفس وشهادة مهنية في الصحافة، صدر له كتاب "لا مكان لا وطن" وهناك كتابان قيد الطبع.يقول: أنا لا أكتب بالقلم بل بدمي ووجوديتي الشاسعة الجريحة.

مدونات أخرى