التعليم التونسي... البحث عن الإصلاح

13 مايو 2015

احتجاجات على المنظومة التعليمية في تونس العاصمة (19مايو/2014/الأناضول)

+ الخط -
مفارقة تونسية بامتياز أن يُفسد التعليم وفق مقاربة محددة، برز النقاش في شأنها عشية الإعلان يوم 23 إبريل/نيسان المنقضي، عند الانطلاق في الحوار الوطني لإصلاح المنظومة التربوية الذي نظمته وزارة التربية التونسية، بالشراكة مع الاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان. 

يعد التعليم التونسي من أعرق التجارب التعليمية وأقدمها في العالم، فهو وريث المنظومة الزيتونية التي تزامنت مع نشأة أبرز الجامعات العالمية، مثل القرويين المغربية والأزهر المصرية والسوربون الفرنسية وهارفارد الأميركية، وأنجبت علماء متفرّدين في علمهم وفي عصرهم، يأتي في مقدمتهم الإمام ابن عرفة والعلّامة ابن خلدون صاحب الموسوعة التاريخية الكبرى المعروفة بكتاب العبر، والطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير وآخرين كُثر.

وتفيد الأرقام المتوفرة حول التعليم التونسي أنه يؤمّن تمدرس ما يناهز مليونين وثلاثمائة ألف تلميذ وطالب، يتوزعون على مختلف المراحل التعليمية. منهم مليون وخمسون ألف تلميذ في المرحلة الابتدائية و850 ألف تلميذ في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وثلاثمائة وستة آلاف طالب جامعي.

ويتميز التعليم التونسي، في مجمله، بأنه تعليم حكومي ترعاه الدولة، وتنفق عليه الأموال، وتحدث المنشآت العلمية والتعليمية والبحثية، من أجل استمراره. وتصل نفقات التعليم العمومي، بمختلف مراحله، إلى 18% من مجمل ميزانية الدولة التونسية لسنة 2015 والمقدرة بـ 28 مليار دينار تونسي، منها 13% مخصصة للتعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، و5% مخصصة للتعليم الجامعي والبحث العلمي.

ومن السمات البارزة في مختلف التجارب التعليمية التونسية تأثرها بالمرحلة التاريخية والخصوصيات السياسية والثقافية التي تمر بها تونس. ففي أواسط القرن التاسع عشر، تأثر التعليم التونسي بحركة التحديث الأوروبي سريعة الوتيرة، ما جعل المدرسة الحربية في باردو لسنة 1846 والمدرسة الصادقية لسنة 1875 تدرّسان الفنون الحربية والعلوم العصرية، وفقا للنموذج الأوروبي.
ومع انتصاب الاستعمار الفرنسي سنة 1881، ظهرت المدرسة الفرنكو-عربية التي أسس لها وهندس فلسفتها الفرنسي لويس ماشويال، صاحب التكوين اللغوي المزدوج، القادم من الجزائر مع جيش الأمة الحامية، لتكون الأداة الناجعة في تسويق المشروع الاستعماري الفرنسي الذي سيهيمن على البلاد 76 سنة كاملة، وينجب في أثنائها رجالاً، يحملون أسماء تونسية، وهويات فرنسية.

ولمّا جاء بورقيبة إلى هرم الحكم سنة 1956 على أنقاض الدولة الاستعمارية، أسس لنظام تعليمي جديد موحد، سمته الرئيسية القطع مع التعليم الزيتوني والكُتّابي، لكنه حافظ على التواصل مع المدرسة الفرنكو- عربية، صانعة الازدواجية اللغوية والثقافية، وأمّن عليه الأديب محمود المسعدي، بما ينسجم مع طموحات الجمهورية الناشئة، ووعود الحزب الحر الدستوري - الجديد في الإصلاح، ووفق رؤية نخبته الصاعدة والمنتصرة.

أما المرحلة الأخيرة من التغييرات التي عاشتها المدرسة التونسية، فقد تزامنت مع صعود زين العابدين بن علي إلى هرم السلطة سنة 1987، وتأمين وزيره للتربية، محمد الشرفي، صاحب الخلفية اليسارية والتكوين الفرنكوفوني على الشأن التربوي الذي تمكّن، خمس سنوات، من إعادة ترتيب البيت التربوي والتحكم فيه، بواسطة قانون الإصلاح التربوي سنة 1991.
ولكن الإصلاح الأخير سرعان ما برزت هشاشته، فقد عرف عدة تغييرات، أهمها برنامج مدرسة الغد لسنة 2002 – 2007 الذي تولته شخصية جامعية، تنتمي إلى المدرسة الإيديولوجية اليسارية نفسها، ولم تفد كل تلك المحاولات والإصلاحات في النهوض بالتعليم التونسي، على الرغم من عراقته التاريخية، وعمق جذوره الحضارية، وتعدد تجاربه الإصلاحية.

وبعد مرور ربع قرن أو يزيد على آخر إصلاح عرفه القطاع التربوي التونسي، يسود إجماع لدى الرأي العام والنخب السياسية والتربوية وقوى المجتمع المدني ذات الصلة، وفي مستوى التقييمات الدولية أيضاً، أن واقع المدرسة التونسية، اليوم، هو الأسوأ في تاريخها، وأن هذه المدرسة هرمت، وبدأت في التداعي، بعد أن فسُد حالها، وانهارت رمزيتها التاريخية التي طالما شكلت عنصر فخر واعتزاز لدى الأسر التونسية، بوصفها المصعد الاجتماعي الوحيد لأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة، ومنبت الدولة التونسية الذي يمدها بالكوادر الإدارية والتكنوقراطية والفنية.

هذا السوء والتردي في المنظومة التربوية، وفي ضعف مخرجاتها، وتراجع قدرات التلاميذ على التحصيل العلمي، وإتقان المعارف والمهارات اللغوية والحسابية، وهي الأساس في كل نظام تربوي وتعليمي ناهض، لا يمكن أن يكون محض مصادفة، أو وليد اللحظة التي نعيشها اليوم، بل هو نتاج فلسفة تعليمية ورؤية حضارية وأيديولوجيا سياسية، أقل ما يقال فيها إنها ضعيفة الوازع الوطني، وتعطي الأولوية لمقولة الكونية وقيمها ومتطلباتها واستتباعاتها الفكرية وروابطها السياسية والاقتصادية الدولية التي تنزع إلى تجاهل كل ما هو خصوصي في الثقافة الوطنية التونسية، المنبثقة تاريخياً من ثنائية العروبة والإسلام.

كان هذا الأمر منسجما مع المنطلقات الفكرية لمهندس إصلاح سنة 1991 وفريقه المعاون، نظرا لنشأتهم على إعطاء الأولوية للنزعة الكونية الأممية على حساب الانتماء الوطني والمحلي، وما يحملانه من خصوصيات.

استفاق التونسيون على أن أبناءهم يحتلون مؤخرة الترتيب في التقييمات العالمية، على غرار تقييم بيزا PISA التي تجريه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، مرة كل ثلاث سنوات، بداية من سنة 2000، وأن جامعاتهم ترتّب خارج الخمسة آلاف جامعة الأولى وفق تصنيف واب متريكس لسنة 2014، وتتقدم عليهم جامعات دول إفريقية، مثل أثيوبيا والصومال وبوركينا فاسو ورواندا.

ولم يعد خافياً على الأسر التونسية أن مدرستهم التي يمولونها من عرق كدهم ومعاناتهم، تلقي بمائة وعشرة آلاف تلميذ سنوياً في الشارع من فلذات أكبادهم، ممن هم في سن تتطلب الإحاطة والرعاية والتأطير، كثيرا ما تستوعبهم البطالة وشبكات الجريمة المنظمة والانحراف وقوارب الموت والجماعات التكفيرية ومافيا الحروب الدولية.

وما كان لهذه النسبة المفزعة من الانقطاع والتسرب المدرسيين أن تتنامى، لو أن إصلاح 1991 جعل التعليم إجبارياً إلى نهاية المرحلة الثانوية، وليس الإعدادية فقط. وما كان لها أن تتحول إلى ظاهرة مخيفة، ومحطّ أنظار وسائل الإعلام سنوياً، لولا الخواء الفكري والروحي والقيمي المصاحب لذلك الإصلاح.

فقد ركّز ذلك الإصلاح، بصفة لافتة، على الشُعب والمقررات ذات الطبيعة العلمية والتقنية والاقتصادية، اعتقادا من أصحابه أن تلك هي الحداثة بعينها التي ستمكن خريج المدرسة التونسية من الاندماج السلس في أسواق العولمة الاقتصادية التي وُضعت المقررات التعليمة على مقاسها.
ومقابل ذلك، أهمل إصلاح 1991 التكوين النفسي والروحي والديني والأدبي والإنساني واللغوي، وجفف المنابع الثقافية الوطنية والدينية، واستهان بالشُعب والمواد الأدبية والإنسانية، وعمل على "فلكرتها"، والاستهتار بها والحطّ من قيمتها، وجعلها محلّ تندر واستهزاء. ووضع اللغة الوطنية موضع الدونية، مقارنة باللغات الأخرى الأجنبية، لاسيما الفرنسية منها، حتى انطلت الحيلة على جمهور التربويين والأولياء والتلاميذ والطلبة بأن اللغة العربية، وهي إحدى اللغات الحية، وفق تصنيف "اليونسكو"، ويستخدمها أكثر من مليار بشر في العالم، بما يضعها في المرتبة الخامسة عالميا، لم يعد لها مكان اليوم، ولا تصلح لتدريس العلوم، فهي لغة الشعر والأدب والعواطف.

وقد دفعت تونس الضريبة غالية، بسبب تلك السياسة اللغوية الخرقاء التي أدت إلى احتقار الشباب التونسي لغتهم الأم، وهويتهم الوطنية، واللهاث وراء اللغة الفرنسية التي حظيت بتثمين المدرسة التونسية، وأنفقت الأموال لأجلها، وجعلت منها بعض النخب وسيلتها في التواصل والكتابة.

ولعل أخطر ما أفرزته السياسات التربوية، في ربع القرن المنقضي، تحول المدرسة والجامعة التونسيتين إلى مركز لتخرّج البطالين فاقدي التكوين الملائم لسوق الشغل، وإلى فضاء لتفريخ الفكر الديني المتشدد التكفيري "المتدوعش" في أوساط الشباب، إناثاً وذكوراً، الذين ينهلون من منابع أخرى، غير ما تقدمه المدرسة، لعدم ثقتهم فيما تقوم به من تكوين، وما تعلّمه من أفكار في الغرض.

المقاربة الكونية للتعليم والتربية التي أثبتت فشلها وفسادها، ونتائجها الوخيمة على تونس ككل، بسبب عجزها عن مقاومة التدخل الأجنبي في القطاع التربوي، وتدفقاته المالية المتأتية من الصناديق القارضة ومنح الدول الكبرى ذات المصلحة المشفوعة بإملاء لسياسات تربوية بعينها، حتى تحولت المدرسة التونسية إلى مخبر للتجارب، تعود، اليوم، من بوابة النقاش العام حول الإصلاح التربوي المزمع الشروع فيه.

فالأمر البيّن هو أن الفريق المؤتمن على الإصلاح التربوي الجديد، والنقاش العام الدائر حول مستقبل المدرسة التونسية، ينتمي إلى الأيديولوجيا نفسها، وإلى والمدرسة السياسية اليسارية التي أنجزت إصلاح 1991 ومشروع مدرسة الغد لسنة 2002، حتى أن وزير التربية نفسه كثيرا ما تباهى بذلك الانتماء في تصريحاته الإعلامية. وبالتالي، إنْ قدّر لعملية الإصلاح أن ترى النور ستكون محكومة بالخلفية نفسها التي حكمت الإصلاحات والتغييرات التي عرفها النظام التعليمي التونسي، وعناوين الفشل التي صاحبت كل تلك المغامرات التي كانت ترضي غرور أصحابها، من دون أن تتمكن من تحقيق الأمن التربوي التونسي المطلوب.

ومقولات القيم الكونية التي سيُعاد إنتاجها وتسويقها من جديد في التأسيس للنظام التربوي المنشود كما ورد ذلك في الورقات المرجعية المعتمدة يجب أن تستبدل بمشروع تربوي وطني واضح المعالم، وذي أولوية، يهدف، بالأساس، إلى إيجاد مواطن تونسي متوازن الشخصية، يعتزّ بانتمائه وهويته الوطنية، ذات المضامين العربية الإسلامية، كما هي مثبتة في الدستور التونسي الجديد، ولا يستبدلها بأي هوية أخرى، مهما كان الثمن، ضمن استراتيجية وطنية واضحة المعالم، تقوم على الاشتراك في الموارد والفرص والتضحيات.

ولا يمكن أن تحقق هذا الأمر منظومة تربوية، نخرها الفساد والتلاعب والمحسوبية، ومن ثمة تكون حوكمة النظام التربوي التونسي، وإخضاعه لرقابة هياكل الدولة وتدقيقاتها، مسألة ملحة تسبق إعادة تهيئة الفضاء التربوي، ومراجعة البرامج والمقررات، بما يستجيب لتلك الإستراتيجية الوطنية، بدلا من الاستجابة لاستراتيجيات دول أخرى، هي اليوم أكبر مستفيد من ولاء المدرسة التونسية للقيم الكونية، عوضاً عن تشبثها بالقيم الوطنية.