التسوّل في "فيينا"!

27 فبراير 2019
+ الخط -
أكثر ما يُلفت، في مدينة لها اسمها ومكانتها مثل "فيينا"، تفاقم ظاهرة التسوّل بصورة لافتة، حتى إنَّ من يُتابع أعداد المتسوّلين من كبار السنّ، والشباب أيضاً، لا بدّ أن يأخذه الاعتقاد بأنَّ شرائح المجتمع في هذه المدينة التي تؤمّها يومياً أعداد هائلة من السيّاح من كل بقاع العالم، آخذة في الازدياد والتنامي عاماً تلو الآخر، وأصبح من شبه النادر ألّا نصادف أمثال هؤلاء، وبشكل يومي، في أغلب الأوقات في الأماكن والأحياء، سواء الراقية منها أو الشعبية، وخلال التوجّه إلى العمل والعودة منه، وانتعاش هذه الظاهرة في الأسواق، وبالقرب من المصارف العامة، والمواقع الأثرية، والمطاعم الشهيرة، والمتنزهات، وعلى الأرصفة المحاذية ـشارات المرور، وفي أماكن النقل العامة، ومترو الأنفاق، وغيرها كثير!

إنّ مهنة التسوّل هي من أقدم المهن على الإطلاق التي عرفتها البشرية، انطلاقاً من حقيقة دامغة تشير إلى أن الفقر وشظف العيش والحاجة الماسة للمال لتلبية حاجات أساسية هي من العوامل التي أدّت وتؤدي إلى انتشار هذه الظاهرة في أغلب المجتمعات، وعلى وجه التحقيق في العالم الثالث والبلدان الفقيرة، وخاصة في قارتي آسيا وأفريقيا، وأن الذين نصادفهم يتسولون على الأرصفة وفي الأماكن العامة ليس بالضرورة أن يكونوا فعلياً من أصحاب الحاجة، أو فقراء ويتطلعون فقط إلى تأمين نفقات الطعام أو الملبس أو فواتير الطبابة أو سواها من الحاجات الضرورية.


ولا شكَّ أنَّ "التسوّل" أو "الشحاذة"، بالعرف الشائع، صارت تشكل حالة من الأسى للكثير ممن نلتقيهم يومياً، حيث صارت أكثر ما تثير ابن "فيينا"، وتدرُّ عَطفه، بتقديم يد المساعدة لهؤلاء الشحّاذين الذين تزايدت أعدادهم، في الفترة الحالية، مبرّرين نشاطهم بعدم توافر الأعمال التي توفّر لهم حياة كريمة، وبصورة خاصة، على الرغم من المساعدات المجزية التي تقدم لهم ولأسرهم من قبل جهات رسمية.

وابن "فيينا" ما عليه إلا أن يُبادر إلى تقديم ما "بِعُبِّه" من نقود، وإن كان المبلغ المتبرّع به زهيداً، فسيقذف به في "حضن" ذاك المتسوّل الذي كثيراً ما تراه يتجوّل مسرع الخطى في الساحات، في الشوارع الرئيسة، والأماكن العامة، وفي داخل محطات المترو. مجمل هذه الصور تزينت بها "فيينا"، وللأسف، وتقرأ من خلالها أشكالاً مختلفة للواقع الذي يُحيط بك.

إنَّ انتشار هذه الظاهرة الاجتماعية يعود إلى غياب الأب الحاضر الغائب، والتفكك الأسري، وحالات الطلاق التي تمهِدُ للخوض في غمار هذه المسألة.. أضف إلى أنَّ أغلب المتسوّلين لا يجيدون أيّ عمل آخر بسبب جهل الأسرة، وتتم معالجة ذلك من خلال تضافر الجهود من كافة الجهات المعنية، ليصار إلى رفع المستوى الثقافي والاجتماعي، وللمساهمة في التوعية للحد من تفاقم هذه الظاهرة.

وعلى ضوء ذلك تتبادر إلى الذهن تساؤلات عدّة، وأهمها: ما هو السرّ وراء تعدّد هذه الفئات التي تقوم بابتزاز المارّة، ومن الجنسين؟ وما يكسبه بعض المتسولين، في يوم واحد، قد يصل إلى أرقام مدهشة، ويلعب الذكاء والدهاء والحنكة في هذا الجانب دوراً محورياً، وغالباً ما يكون الكذب بوابة ملح المتسولين.

فبقدر ما يكون مقنعاً في جذب استعطاف وشفقة الناس بقدر ما يُحقّق حصاداً مغرياً من المال، وأحابيل الكذب وفنونه وحدها لا تكفي، وإنما لا بد من إقناع الطرف الآخر الذي هو موضع السؤال والاستجداء بحقيقة حاجته الماسة للمال.

فالمتسول العادي الذي ينتمي إلى فئة الشباب ولا يشكو من عاهة مستدامة قد يكون الأقل حظاً من بين المتسولين، وربما بالكاد يتمكن من تحصيل ثمن علبة السجائر وما يحتاج إليه من طعام ونفقات وسائط النقل، بينما من يمتلك عاهة مستدامة مقنعة وواضحة للعيان ولا تحتمل التشكيك ولا تمت إلى التمثيل أو التصنّع بصلة، فأمثال هؤلاء غالباً ما يتمكنون من استدرار عطف الناس إلى حدود كبيرة جداً.

التفاصيل التي تحدثنا عنها لا تعني، ولا بأي حال من الأحوال، أنَّ غالبية المتسوّلين يخترعون العاهات أو أنهم لا ينتمون إلى شريحة الفقراء، فهناك من هم فقراء بالفعل، وبأمس الحاجة لتوفير نفقات شراء خبزهم اليومي وما تتطلبه حاجات أولادهم، وأمثال هؤلاء لهم ظروفهم، والتي قد تبدأ من موت معيل العائلة، في وقتٍ مبكر، ولا تنتهي عند حدود عدم قدرة رب العائلة على العمل لأسباب وظروف صحية ما يشجّعهم على الوقوف على بعض شارات المرور، أو أماكن بوابات النقل العامة، أو بالقرب من دور العبادة.. وسواها من الأسباب التي يطول شرحها.

إنَّ أغلب المتسوّلين الجائلين فيها اليوم، من غير النمساويين، وطئوا أرض "فيينا" ولجأوا إليها بعيداً عن آلة الحرب والدمار التي عبثت ببلدانهم، وحولتها إلى فسحة من الخراب، وجلّهم من الغرباء، إلا أن ظروفهم الحياتية جعلتهم يستعطفون المارة الذين لا يفتأون يغدقون ما يملكون من فتات ما يعيشون به، والصور الكثيرة التي لحظناها حقيقية في شوارع وأحياء العاصمة النمساوية، تجعل من القادمين الجدد محط أنظار أهلها، وضيوفها السيّاح الذي تحتضنهم العاصمة المبهجة مع إشراقة كل صباح، وهذا ما أثار حفيظتهم، وتساؤلاتهم المستنكرة والتي تستغرب صور هذه المناظر المقزّزة التي أساءت للعاصمة النمساوية، واستغربها الزائر الجديد الذي فضّل العيش في النمسا، بوابة العبور، نحو أسوار أوروبا، بلد النعيم، الذي طالما حلم به أبناء الشرق الذين ظلّوا، والى اليوم، يُمنون النفس بالوصول إليها والعيش في أجوائها المنعشة، الساحرة.

هذا البلد الجميل، الذي يُفاخر على أنه واحد من البلدان الأكثر خضرةً في العالم، ويزخر بأنهار جليدية وبحيرات متلألئة، ومناظر طبيعية خلّابة، مانحاً الزوّار الكثير من المواقع الرائعة لالتقاط الصور التذكارية، لأولئك الباحثين عن وجهة توثّق أجمل الذكريات وأمتع الأوقات.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.