الترجمة والعقاب

20 مايو 2018
فورتوناتو ديبيرو/ إيطاليا
+ الخط -

الأصل في الترجمة أنها فعل نبيل، لتيسيرها الربط - مثل جسر - بين طرفيْن، أو بنقلها لنص من لغة إلى أخرى، وهي مهمة من بين مهمات عديدة يُزاولها المترجِم؛ ويُجملُها الإله الشاب هِرمس العبقريّ؛ أيقونة المترجِمين، في ما أُسنِد إليه من أدوار كثيرة، كأن يكون "رسول" أبيه، أي ساعي بريده، ومُجيرَ اللصوص، وحامي المسافرين و"دليل" أرواح الموتى إلى عوالم الجحيم السُّفلى، وظهيرَ التُّجار، وفي كلّ تلك المهمات ينهض الفتى الإله الذَّكي والماهر والماكر المحتال بدور الوساطة بين طرفين.

ويُعرَف عن هرمس، أيضاً، سرقتُه أبقاراً كانت مِلكاً للإله أبولون، وإخفاؤه بمهارته الفائقة آثارَها، ولمّا اكتُشِف أمرُه، عندما خانه الراعي باتُو الثرثار، عُوقِبَ - وفق شارل لوبْلان - "بأن يكون الرَّسول الخالد للآلهة، لقد كان له أن يعيش إلى الأبد، لكنْ عليه ألا يتكلَّم أبداً من تلقاء نفسه. كان من واجبه أن يعيش تحت إمرة الآلهة الآخرين الذين يتوجب عليه أن يخدمهم، وأن ينقل كلماتهم بكل أمانة [...] لقد أمسى منذ تلك اللحظة مجْبَراً على أن يكرّر كلمات الآخر ويعيد قولها". لقد حُكِم على هرمس بأن يلتزم الترجمة دون زيادة أو نقصان، أي أن يلوك قول الآخرين عقابا له على خيانته الأمانة وسرقته ما لغيره.

ويُطلعنا الإصحاح (11) من سفر التكوين على طبيعة العقاب الذي تعرَّض له ساكنة بابل قديماً؛ فقد غضب الرَّب منهم لتطاولهم عليه، "وقال الرَّبّ: «هُوَ ذا شَعْبٌ واحدٌ لجَميعِهمْ، وهذا ابتداؤُهمْ بالعَمَل. والآنَ لا يَمْتَنِعُ عليْهمْ كُلُّ ما يَنْوُون أنْ يَعْمَلُوه. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هناكَ لِسانَهم حتَّى لا يَسْمَعَ بَعْضُهُم لسانَ بعْضٍ». فبدَّدَهم الرَّبُّ من هناكَ على وجه الأرض، فكَفُّوا عن بُنْيانِ المدينة".

هكذا حُكِمَ على شعب بابل بالبلبلة وبأن يشقى بحثاً عن اللغة المشتركة، أي عن الترجمة وسيلة لإعادة الوصل بينهم بعد الفصل الإلهي لهم وتشتيهم. وتُطلعنا الأخبار أن مترجِمين كثيرين تسبَّبت الترجمة في محنتهم فعوقبوا، في أغلب الأحيان، بأشكال مختلفة؛ ففي العالم العربي الإسلامي نُكِّل بابن المقفَّع وقُتِل ليس لهرطقته فحسب، وإنما لكونه ترجَم إلى العربية كتاب "كليلة ودمنة"، الذي اعتُبِر نَيْلاً من النظام السياسي وتعريضاً به. وعاش ابن رشد محنة تمثَّلتْ في إحراق كُتبه، ومنها تلخيصاتُه لكتب أرسطو التي تُعتَبر ترجمةً داخل اللغة نفسها، حسب رومان جاكبسون.

وفي إنكلترا القرنين 14 و16م اتُّهم المترجِمان جُونْ وِيكْلِيف ووِيلْيَام تِيْنْدال بالهرطقة، وأُعدِمَا إحراقاً بسبب نقلهما أعمالاً أدبية وفكرية مِن اللاتينية إلى الإنكليزية، وهو ما لم تستسغه الكنيسة آنذاك، التي لم تتوانَ عن ملاحقة كلّ من سوَّلت له نفسُه أن يُترجِم الكتاب المقدَّس أيضاً.

لقد خاض هذه المغامرة في القرن 16 أيضاً مُصلحون ومُفكّرون أوروبيّون كانوا تراجمة، يأتي في مقدِّمتهم مارتن لوثر الذي ترجم الإنجيل إلى الألمانية، والذي جرّ عليه فِعْلُه التنويريّ والوطني الجريء هذا متاعبَ، وكانت الكنيسة مرَّةً أخرى المحرّكةَ لها والمحرِّضة عليها، وكان مآل المترجمين السجن أو القتل أو الحرق، لأنهم احتفوا باللغات المحليَّة أيضاً، وأعطوها الصدارة.

وفي القرن العشرين، جرَّت رواية "آيات شيطانية" الويل على مؤلِّفها سلمان رشدي ومترجِميه أيضاً؛ فإذا كان آية الله الخُميني قد أَهْدر دم الروائي الهندي، فإن مترجِميه إلى اللغات الأخرى قد لقوا مصائر مختلفة؛ فالياباني هيتوشي إيغاراشي مترجِمه قُتِل طعْناً سنة 1991، وفي السنة نفسها استُدرِجَ مترجِمُه الإيطالي إيطُورّي كَابْرِيُولُو إلى لقاء، في مِيلَانُو، وتعرَّض للطعن، وفي 1993، تعرَّض مترجِم الرواية إلى التركية عزيز نِيسين إلى محاولة اغتيال بالإحراق، في فندق بمدينة سِيفَاس، لكنه نجا.

وبالعودة إلى واقع الترجمة والمترجمين البئيس في عالَمنا العربي؛ ألا يصح اعتبار عدم الاكتراث بهما فيه عقاباً أقسى من الإحراق والقتل؟

دلالات
المساهمون