الترابي .. الدخول من باب الخروج

30 نوفمبر 2014

حسن الترابي في مؤتمر صحافي عقب خروجه من السجن(يناير/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

يختلف السودانيون كثيراً حول آراء الشيخ الدكتور حسن الترابي، وأفكاره ومواقفه، وهو أكثر السياسيين السودانيين إثارة للجدل، وربما لا يتفقون على شيء بشأنه، إلا أنه من أمهر ثعالب السياسة ودهاتها. كما يتفق الناس على تعريف الرجل، باعتباره صاحب قدرات حركية وتنظيمية كبيرة، فقد استطاع تحويل تنظيم الإخوان المسلمين الصفوي الصغير، حين تسلم قيادته في منتصف الستينات، إلى حركة جماهيرية واسعة وكبيرة، تتحالف مع الرئيس الأسبق، جعفر نميري، في السبعينات، وتأخذ دوراً محورياً في الديمقراطية الثالثة (1985-1989)، ثم تنقضّ على السلطة، وتنفرد بها، في يونيو/حزيران 1989.
وقف الترابي، يوم الأحد، 23 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، على منصة اتحاد المحامين السودانيين، الموالي للحكومة، محاطاً بقيادات من حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وبشارات الرضى والقبول منهم، متحدثاً عن التعديلات الدستورية المرتقبة، لمنح رئيس الجمهورية سلطة تعيين حكام الأقاليم (الولاة). بسرعةٍ، عادت الذاكرة الشعبية السودانية خمسة عشر عاماً إلى الوراء، لتتذكر أن خروج الشيخ من المنظومة الحاكمة في عام 1999، فيما عرف بالمفاصلة، كان سببه الخلاف حول انتخاب الولاة، أو تعيينهم، وها هو يعود إلى الظهور من الباب نفسه، تعديل الدستور، لتعيين الولاة. لكن، شتان بين الحالتين، فقد خرج الشيخ مغاضباً، وها هو يعود معاتباً وملاطفاً.
بالتأكيد، لم يكن ذلك هو الخلاف الأوحد بين مجموعة الشيخ الترابي، راعي النظام ومرشده، ومجموعة الرئيس البشير، التلميذ الذي شب عن الطوق، في سنة المفاصلة 1999، فقد تراكمت الخلافات سنوات حول قضايا كثيرة، وبدا أنها تنتظر القشة التي تقصم ظهر بعير وحدة التنظيم، وكانت الخلافات حول موضوع تعيين الولاة، وهذه وجهة نظر معسكر البشير، أو ضرورة انتخابهم، كما يرى الشيخ، هي نقطة تفجير قنبلة الخلاف. انقلب المشير على المرشد في رمضان 1999 وحل البرلمان الذي كان يرأسه الترابي، وأخرجه من الحزب الحاكم. وخرج الشيخ ليشكل حزبه الخاص المؤتمر الشعبي، ويمضي في طريق المعارضة الشرسة للنظام، بكل الوسائل، بما فيها محاولات الانقلاب والانقضاض على السلطة بعمل عسكري.
كان تصنيف حزب المؤتمر الشعبي هو العدو الأول للنظام، وتكمن خطورته في معرفته بأساليب عمل النظام، وربما لا تزال لديه جيوب تعمل لصالحه، بالإضافة إلى استعداده للعمل العنيف والمسلح، على عكس قوى المعارضة الأخرى. وظل الحزب جزءاً أصيلاً وشرساً من حركة المعارضة. وحين قبل، فجأة، بالحوار مع الحكومة، اتفق مراقبون كثيرون على أن الترابي وحزبه ليس من النوع الذي يسمع دعوة من الرئيس في الإعلام إلى الحوار الوطني، فيستجيب لها. لذلك، لا بد من أن حوارات مكثفة وطويلة، جرت في الأشهر السابقة، من وراء ستار، اتفق فيها الطرفان على كل شيء، ثم جاء خطاب الرئيس عمر البشير بالدعوة إلى الحوار. ويظن كثيرون أن عملية التغيير في "المؤتمر الوطني"، وإخراج الرموز الكبيرة، ومنهم النائب الأول السابق، علي عثمان محمد طه، والدكتور نافع علي نافع وآخرون، كانت جزءاً من صفقة البشير - الترابي. خرج الشيخ مغاضباً، وها هو يعود معاتباً وملاطفاً.

بهذه الخلفية، جاء الجمهور ورجال الإعلام والسياسة إلى ندوة اتحاد المحامين، ليستمعوا لحديث الترابي ويقرأوا ما بين السطور وما بعدها، ولم يخيب الرجل ظنهم. كانت كلمته مؤشراً واضحاً على حجم التفاهم والانسجام الذي صار بين الشيخ وتلاميذه السابقين، الذين تحولوا، في لحظات، أعدى الأعداء، ثم تلاقوا، مرة أخرى، فعلى الرغم من أن وجهة نظر الشيخ الترابي، بشكل عام، لا تستظرف فكرة تعديل الدستور وتعيين الولاة، إلا أنه أصبح في حالة مختلفة عن حالة المعارضة والاختلاف، فجاءت وجهة تنظره ملتفّة بثوب عتاب المحبين وملامة العاشقين.
تحدث الشيخ عن الظروف الحالية التي اعتبرها ملائمة للحوار، وأكثر من الهجوم على المعارضة وضعفها، وقال إن الرهان على إسقاط النظام لم يعد وارداً. ولهذا، اتجه وحزبه نحو الحوار. وما مرت لحظة ذكر فيها النظام وقياداته إلا وسبقها بكلمة "أخواننا". ومر الشيخ على مسألة التعديلات الدستورية وتعيين الولاة، فتحدث بلغة لا تشبه أحاديثه السابقة التي ظل يسلق فيها النظام بألسنة حداد، ولم يكن يكتفي بالهمز واللمز والإشارات الساخرة، وإنما يلحقها بكلمات مثل الطاغوت والاستكبار والديكتاتورية.
خرج الجميع من الندوة بقناعة تامة أن الشيخ وحزبه حسما خيارهما في المضي بالحوار مع الحكومة إلى نهايته السعيدة، ولو بقي المؤتمران، الوطني والشعبي، وحدهما في ميدان الحوار الجاري حالياً. كان ذلك هو الظهور الجماهيري الأول للشيخ حسن الترابي، منذ بداية الدعوة إلى الحوار الوطني في خطاب الرئيس عمر البشير في يناير/كانون الثاني الماضي. مهّد الترابي لتحولاته بحضور خطاب الرئيس البشير في قاعة الصداقة، في أول ظهور للرجلين معاً في محفل سياسي منذ 1999، ثم حضر الشيخ المؤتمر العام للمؤتمر الوطني، وألقى فيه كلمة قصيرة، لكن يعتبر ظهوره في اتحاد المحامين الخطاب الجماهيري الأول له منذ فترة طويلة، والتدشين الرسمي لعودة العلاقات بين الخصمين القديمين.
ومنذ بداية الحوار في مطلع العام الحالي، صام الترابي عن الحديث لأجهزة الإعلام، بل صام معظم قادة حزبه، وتركوا الساحة للمسؤول السياسي في الحزب، كمال عمر المحامي، ليصول ويجول مدافعاً عن مواقف حزبه، ومبرراً تحوله من المعارضة إلى الموالاة. وربما كان من أسباب الصيام أن المؤتمر الوطني الحاكم لم يساعدهم كثيراً في ترويج الحوار، أو تهيئة المناخ له، بقيامه بإجراءات استثنائية ضد القوى المعارضة وقياداتها، فاكتفى أنصار الترابي بالتمسك بقناعتهم بالدخول في الحوار، مهما حدث، من دون تحمل مسؤولية إجراءات الحكومة، أو الدفاع عنها. يستثنى من ذلك المسؤول السياسي للمؤتمر الشعبي، كمال عمر، الذي صرح مرة في أثناء اعتقال الصادق المهدي أن حزبه، المؤتمر الشعبي، ماض في الحوار، حتى وإن تم اعتقال كل قيادات الحزب، بمن فيهم الترابي، ما أثار غضب زملائه في الحزب.
دشن الشيخ الترابي، إذن، عودته إلى حلبة السياسة من الباب نفسه الذي خرج منه، وهو مدخل يشبه الشيخ الذي لا تنفد مفاجآته، والذي يستمتع، فيما يبدو، بإثارة الجدل حوله.

E69D475A-C646-467F-AF79-E645475CAAF5
فيصل محمد صالح

كاتب وصحفي سوداني، ومحاضر جامعي. يعمل مديرا لمركز طيبة برس للخدمات الإعلامية، وكانب عمود يومي في صحيفة الخرطوم. حاصل على الماجستير من جامعة كارديف. تولى رئاسة تحرير صحيفة الأضواء. حاصل على جائزة بيتر ماكلر الأميركية للنزاهة والشجاعة الصحفية.