التحفيل في سبيل الله!

21 يونيو 2020
+ الخط -
بعد ساعات قليلة من إعلان ذلك الخبر الحزين عن انتحار الناشطة اليسارية المثلية سارة حجازي في منفاها بكندا، لأنها لم تحتمل مواصلة مقاومة قسوة الحياة المليئة بالكراهية والظلم، أعاد أحد أصدقائها نشر تدوينة قديمة لها طلبت فيها من أصدقائها عند موتها أن يستمعوا إلى موسيقى كانت تحبها، وبدأ أصدقاؤها وكثير ممن لم يعرفوها عن قرب يتبادلون رابط الموسيقى على موقع ساوند كلاود، ويترحمون عليها ويذكرونها بالخير وهم يستمعون إلى تلك الموسيقى الجميلة، لكن شاباً اسمه كريم قرر أن يفتتح حملة كراهية داخل تعليقات ذلك الرابط الموسيقي، لكنه على عكس كثيرين غيره، لم يختر تسجيل إدانة للمثلية الجنسية أو الانتحار أو الإلحاد الذي اتهم كثيرون سارة به، بل قرر أن تكون كراهيته شخصية وفجة ومباشرة فكتب "ك.. أم سارة حجازي"، وغادر موقع ساوند كلاود، تاركاً لغيره مواصلة مهمة "التحفيل في سبيل الله" التي مارسها كثيرون بحق سارة حجازي في أكثر من موقع.  

لا أعرف كريم شخصياً، لكنني ربما أعرف لماذا رفض أن يكف أذاه بالصمت، حين رأى غيره يترحم على روح طيبة لم تحتمل قسوة الحياة، فقد قابلت مثله كثيرين عبر السنين التي عملت فيها في الصحافة والإعلام، ولذلك أتخيل أنه بات ليلته راضياً سعيداً لأنه تقرب إلى الله تعالى بإيذاء مشاعر متعاطفين مع من يراها مارقة عن دينه وشرعه. لم أكن بحاجة إلى أن أدخل إلى حسابات كريم على مواقع التواصل الاجتماعي لأتأكد أنه ليس منتمياً إلى جماعة متطرفة، وليس عضواً في تنظيم إرهابي، حين أرى صوراً "ساخنة" لنجماته المفضلات، أو فيديوهات تعيد أهداف لاعبيه الأمهر، أو روابط لأغانيه الأحبّ إلى مزاجه، أو نكتاً "أبيحة" تلقيه على قفاه من الضحك، وحين أقرأ سطوره المتحمسة لإدانة الحوادث الإرهابية التي يروح ضحيتها ضباط وجنود ومدنيون، وحين أرى "تشييره" لكلام عاطفي يدافع عن الإسلام دين الرحمة والتسامح في وجه من يتهمونه بالظلامية والتطرف، فكريم لا ينفرد بكل هذا عن غيره من الذين شاركوا في ذلك التحفيل الذي "أشعل" مواقع التواصل الاجتماعي في ليلة رحيل سارة حجازي وما تلاها، ربما كان كريم أكثر وقاحة من غيره الذين اكتفوا بـ "جهاد الريآكت" وقرروا وضع "إيموجيهات" ضاحكة على كل بوست حزين أو متعاطف، وربما كان أقل علماً من غيره الذين قرروا أن يذكروا الحزانى والمتعاطفين بأنهم يحيدون عن طريق الله حين يترحمون على سارة حجازي، وأنهم بحزنهم وتعاطفهم معها يروجون للمثلية والإلحاد والانتحار.

إذا لم تكن قد عرفت كريم وأمثاله من قبل، ربما ظننت أنك ستعيده إلى صوابه، حين تذكره بالآية القرآنية التي تقول" "أهم يقسمون رحمت ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا"، أو تلك التي تقول: "قل لو كنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق"، أو بذلك الحديث النبوي الذي ينهى عن سب أبي جهل أمام ابنه عكرمة لأن سب الميت يؤذي الحي، أو ذلك الحديث الذي يقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم خاشعاً حين تمر جنازة يهودي أمامه ويقول لمن استغربوا ذلك: "أو ليست نفساً"، لكنك ستفاجأ إن فعلت أن كريم ربما رد عليك بآية قرآنية تنهى عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا ذوي قربى، وتقول لمن يفكر في ذلك الاستغفار: "إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، وربما استعان بصديق أو بموقع إنترنت وجاءك بدل الحديث بعشرة تنهى المسلم عن اللين في الحق وتوصيه بالشدة في الباطل، لتجد نفسك منجراً إلى جدال طويل عن أسباب النزول والسياق والثابت والمتحول وفقه الأولويات والاجتهاد والتقليد والقرآن حمّال أوجه والدين المعاملة، وغالباً سينتهي ذلك الجدال بالبلوك من أحد الطرفين، إما لأنك لن تتقبل اتهامك بنقص الإيمان والتحريض على الفسق، أو لأنه لن يتقبل اتهامك بالتشدد والتطرف، لينتقل كريم وأمثاله إلى ساحات أخرى يمارسون فيها التحفيل في سبيل الله، وتقرر أنت اتخاذ إجراءات عاجلة تقفل عليك دائرتك الضيقة، للتقليل من بشاعة كون تتأكد كل يوم أن تغييره أصعب مما كنت تتخيل، وتكتشف أن القبول ببشاعته والتصالح معها لن يكفل لك النجاة الأكيدة.

بعد قليل ستكتشف أن خناقتك مع كريم وأمثاله لم تكن شخصية، حين تراهم ينهالون باللعنات والشتائم والتشكيك في النوايا على "أدمن" صفحة دار الإفتاء على الفيس بوك لأن الصفحة نشرت السطور التالية: "القطع بأن شخصاً بعينه لا يرحمه الله في الآخرة، أو لن يدخل الجنة أبداً، والحلف بذلك، هو من التألّي على الله وإساءة الأدب مع من رحمته وسعت الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى"، وهو ما أزعج كريم وأمثاله من أنصار مدرسة "بيب بيب إسلام" الذين يتعاملون مع الدين بوصفه فريق كرة لا بد أن يكسب طيلة الوقت، وحين يضيع أحد من يرتدون فانلته فرصة تسديد على مرمى الأديان والمعتقدات الأخرى، يجب أن يسبوا له مائة ملة لكي يعود إلى رشده ويواصل التسديد بقوة وثقة، وهي مدرسة ستجدها في كل الأديان والعقائد والأيديولوجيات، لكنك ستستغربها أكثر على "جمهور" الأديان التي كان يفترض أن ترتقي بالأخلاق وتلزم معتنقيها بالقيم والفضائل، لكن كثيراً من أنصارها تحولوا إلى "مشجعين مهاويس" منفصلين عن قيم وأخلاق وفضائل دينهم، لا يهمهم أن تتغير طباعهم وسلوكياتهم طبقاً لما يمليه عليهم دينهم، بقدر ما يهمهم أن تعلو راية دينهم خفاقة بأي شكل، ولذلك فهم يعتبرون أن طلب الرحمة من الرحمن الرحيم لآخرين ينتمون إلى عقائد أو أفكار مختلفة، يمثل تهديداً لإيمانهم، وحرماناً لهم من الجائزة النهائية التي سيحصلون عليها، وهي أن يدخلوا الجنة، ويدخل غيرهم النار، وحين تصبح تلك الجائزة هي المكسب الوحيد الذي يعتقدون أنهم سيحصلون عليه بعد حياة لا تسر الصديق ولا تغيظ العِدا، يزداد تعقيد المسألة لديهم، ويزداد ما يحدثونه من صخب وضجيج وتحفيل في سبيل الله.

في الغالب الأعمّ، كريم وأمثاله ليسوا مهتمين بالنقاش معك حول موقفك، لأن مجرد إعلان رأيك المختلف معهم يسيئ إليهم، وكل ما يرغبون فيه أن تحتفظ برأيك لنفسك، لأن وجود رأيك المختلف يزعجهم ويربكهم ويشعرهم بعدم الأمان، وهم بذلك ليسوا مختلفين عن الوطنجية الذين يزعجهم أي رأي مختلف فيتهمونه بالخيانة ويسعون للتنكيل به ولا يمانعون في الاعتداء عليه، وهؤلاء وأولئك ليسوا أعضاء في تنظيم يتلقى أوامر محددة، ليسوا لجاناً إلكترونية كما تحب أن تتصور، لكي تريح نفسك بأن هناك من يخطط كل ما يجري. ليتهم كانوا لجاناً أو منتمين إلى تنظيم ما ينسق جهودهم، لأن ذلك يعني نظرياً إمكانية التغلب على جهود تلك اللجان أو التنظيمات عبر عمل منظم مضاد. المؤسف والمفزع كريم وأمثاله جزء من مناخ عام مسمّم يحتقر التعدد والاختلاف، ويكره الحرية والتنوع، ويحرض على أهمية أن يكون الناس نسخاً واحدة متطابقة في أفكارها الوطنية والدينية والأخلاقية، وفي مناخ كهذا لا يحتاج كريم وأمثاله إلى أن يكونوا أعضاء في لجنة الكترونية أو منتمين إلى تنظيم، لكي يذوقوا لذة التحفيل على من يعلن رأياً مختلفاً معهم في الدين أو الوطنية أو الأخلاق أو الميول الجنسية، وإذا أردت أن تنجو من ذلك التحفيل، فعليك أن تنكفئ على ذاتك وتحتفظ برأيك لنفسك، وتكون في العلن مطابقاً للمواصفات القياسية التي تعتمدها الدولة ويرضى عنها المجتمع، لكي لا تكون هدفاً للتحفيل في سبيل الله أو الوطن.

لن تبقى آراء كريم وأمثاله كما هي إلى الأبد، ربما تغيرت إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، لا أستطيع أن أصادر على قدرة كريم على تغيير أفكاره وتطويرها، لكي أريح نفسي، فقد كنت في يوم ما أعتنق آراء مشابهة لرأيه في كثير من القضايا الشائكة في مجتمعنا، ولم تتغير آرائي لأنني تلقيت أمراً تنويرياً مباشراً، أو لأنني حصلت على فرصة عمل مع جهة أجنبية فقررت تغيير آرائي لأحصل على ختم القبول، وإنما تغيرت لأنني ـ والفضل في ذلك بعد الله لثورة يناير ـ خرجت عن الحدود الثقافية الآمنة التي عشت فيها طيلة عمري، وعرفت أن تقييم الإنسان لا يكون بدينه أو بهويته الجنسية أو حتى بانحيازاته السياسية، وإنما بقيمه الإنسانية وانحيازه للعدل والمساواة والحرية والرحمة والإحسان والنفع العام وغيرها من القيم التي لا أعتبر الانحياز لها مثالية، بل واقعية وعقلانية لأن الحياة بدون تلك القيم لن تزداد إلا خراباً وفساداً، ولذلك لن أفعل مثل البعض وأحكم على كريم وأمثاله بأبدية "التخلف" أو "الرجعية"، لأنهم يأخذون مواقف عدائية تجاه ظواهر تربكهم، فقد كنت مكانهم يوماً ما. ربما لم أكن بنفس تلك العدوانية والفجاجة، لكنني أعرف آخرين كانوا أشد عدوانية وفجاجة ووقاحة، ولم يعودوا كذلك لحسن الحظ، لكنني في الوقت نفسه لن أسمح لكريم وأمثاله بإرهابي ودفعي إلى عدم التعبير عن رأيي، مهما تعرضت لذلك من أذى وتحفيل وبلطجة.

لا أدري ما الذي ستفعله الأيام بكريم وأمثاله من هواة التحفيل؟ متى سيكتشفون أنهم ليسوا حاصلين على إعفاء نهائي من تعقيدات الحياة ومفاجآتها التي تقلب القلوب وتربك العقول؟ متى سيدركون أن إشهار اليقين الكامل في وجوه الجميع لن يعفيهم من مواجهة الأسئلة والشكوك؟ هل سيجدون خلاصهم في مزيد من التشدد يدفعهم لحمل السلاح على من يخالفونهم في الرأي؟ أم سيجدونه في عدمية سلبية شاملة تجعلهم يديرون ظهورهم لكل المعاني والأفكار ويبحثون عن خلاص فردي يظنون أنه سيتحقق في مجتمع يزداد خراباً وانحطاطاً؟ هل ستدخلهم الأيام في تجارب مريرة كالتي عاشتها سارة حجازي التي قررت ألا تكتم حزنها وقلقها وشكوكها، وظنت أنها يمكن أن تتغلب على قرار وضعها في قالب للأبد؟ أم أنهم سيستمرون حتى النهاية في الاحتماء بحالة الإجماع الديني والوطني والأخلاقي التي تشعرهم بالأمان وتبشرهم بقرب الحصول على الجائزة النهائية؟ هل سيجدون لذة دائمة في مواصلة التحفيل باسم الله أو الوطن أو الأخلاق؟ أم ستجعلهم مطحنة الحياة أهدأ وأحنّ وأعقل ليدركوا أن الاختلاف مع غيرك في دينه وأخلاقه وتصوره للوطنية لا يعني أن تتحول إلى وحش تستبيح نهش المخالفين لك والفتك بهم؟ وهل يمكن أن نتصور يوماً تتوقف فيه حملات التحفيل في سبيل الله أو الوطن أو الأخلاق في بلاد يقوم حكامها باستباحة حرمات وحريات معارضيهم ويشجعون على ذلك بشتى الطرق؟ وهل نكون صادقين مع أنفسنا لو ظننا أن كريم وأمثاله هم أصل المشكلة أو تصورنا أن سارة حجازي ستكون آخر الضحايا؟ 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.