التجنيد الإجباري في مصر.. الخدمة في صالات الأفراح

30 مارس 2015
المجندون لا يفضلون التشكيلات التي تبدأ بحرف الميم(فرانس برس)
+ الخط -

في نهاية فصله الدراسي الثاني، من السنة الختامية له، في كلية آداب المنصورة - وسط دلتا مصر-، بدأ المجند "ح.د 22 عاما"، البحث عن وساطة داخل الجيش المصري تساعده في الحصول على إعفاء من التجنيد، لصعوبة الحصول على الإعفاء أو حتى التأجيل كما هو معتاد في هذه الفترة، منذ ثورة 25 يناير. عبر أحد معارفه في القوات المسلحة، نجح في الحصول على فرصة قضاء خدمته العسكرية في مبنى خدمي تابع لدار الدفاع الجوي في القاهرة، بعيداً عن العناء والخطر، لكنه فوجئ بأن مهمته في القوات المسلحة المصرية أصبحت تأجير قاعة أفراح.

يبدو الأمر غريباً ويدعو للتساؤل حول علاقة فترة التجنيد داخل القوات المسلحة بخدمة المدنيين في إعداد أفراحهم وسهراتهم، لكن "المجند ح.د" يؤكد لـ"العربي الجديد" أن "المكان بالنسبة إليه وللكثير من العساكر، أفضل بكثير من الأسلحة الأخرى"، ويقول "زملائي ممن لا يملكون وساطة، ينظرون إلي بحقد ويتمنون أن يكونوا مكاني، رغم ما أتعرض له من مهانة وذل في هذه الخدمة".

مجندون في صالات الأفراح

قصة هذا المجند كانت مدخلنا لمحاولة الكشف عن حقيقة ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي، ديسمبر/كانون الأول الماضي من عام 2014، خلال افتتاح مجمع الجلاء الطبي، الذي يضم فندقاً ومشفى تابعة للجيش وأماكن خدمية وترفيهية أخرى، إذ أكد أن القوات المسلحة يعمل بها أكثر من 50 ألف عامل مدني، في التخصصات المختلفة، لخدمة الاحتياجات الخاصة بالمستشفيات والفنادق والجهات الخدمية، التي يتعامل معها مدنيون. لافتاً إلى أن من يردد "أن المجندين يعملون في المناطق الخدمية الخاصة بالجيش مخطئون" حسب تصريحه حينئذ، وهو ما نفاه هذا المجند بشكل قاطع، موضحاً أنه يعمل هو وكثيرون في صالات الأفراح وأعمال الترميم وغيرها داخل المبنى.

وذكر أنه ذات مرة طلب العقيد منه أن يغسل له السيارة الخاصة به، موضحاً أنه في البداية تردد في الأمر وكاد أن يرفض تنفيذ الأوامر، مضيفاً "فكرت قليلاً أنه في حالة الرفض من الممكن أن يضطهدني فوافقت واضطررت أن أغسلها رغماً عني"، مشيراً إلى أن النظام داخل الجيش يعتمد على تنفيذ الأوامر سواء كانت صحيحة أو خاطئة.

صابون "الحرب الكيميائية"

تتبعنا الأماكن الخدمية التابعة للجيش في محاولة للتقصي حول هذه المعلومة من خلال أمثلة أخرى، إذ انتقل كاتب التحقيق إلى محطة الوقود "وطنية" التابعة للجيش االمصري في الطريق الصحراوي المؤدي إلى الصعيد، واكتشفت "العربي الجديد" أن العاملين في محطة "البنزين" معظمهم من المجندين الذين يقضون فترة خدمتهم العسكرية داخل الجيش، إذ تضم "البنزينة" مركزاً لصيانة السيارات وتنظيفها بالإضافة إلى "كافيه" لتقديم المشروبات و"ماركت" يحمل اسم "smile" لتقديم الأطعمة والمنتجات المختلفة.


وثّق كاتب التحقيق عرض محطة البترول عبوات كبيرة من الصابون السائل بأسعار منخفضة، بنحو 12 جنيهاً مصرياً (أقل من دولارين أميركيين) للعبوة التي تضم 10 لترات تقريباً، من صنع إدارة الحرب الكيميائية داخل الجيش، حسبما أوضحت لافتة أعلى المعروضات.

ويضم جهاز مشروعات الخدمة الوطنية داخل وزارة الدفاع، نحو عشر شركات بينها الشركة الوطنية للبترول والتي تضم عدداً كبيراً من محطات البنزين التي تحمل اسم "وطنية".

"كشك صافي"

من أجل مزيد من التقصي عن حقيقة عدم عمل المجندين في الأعمال الخدمية داخل القوات المسلحة، تحرى كاتب التحقيق عن الشركة الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه "صافي" (شركة تابعة لجهاز الخدمة الوطنية وتملك عدداً من الأكشاك بالقرب من مباني القوات المسلحة لبيع المياه للمدنيين)، تمكن كاتب التحقيق من توثيق بيع المجندين للمياه طوال خدمتهم في الجيش، بينما لم يتأكد من معرفة من يعمل في إنتاج المياه نفسها، إلا أن ضابط احتياط سابقاً في الجيش أكد لـ"العربي الجديد" أن "القوات المسلحة تستعين ببعض الخبراء والمتخصصين إما عن طريق التعاقد معهم كموظفين مدنيين أو باختيارهم من خلال المتقدمين للتجنيد من أصحاب المؤهلات العليا المتخصصة للعمل في هذه الوظائف التي تحتاج إلى خبراء".

مجندون يقدمون "الشيشة"

خلال زيارة "العربي الجديد" لناد تابع لضباط حرس الحدود في أحد أحياء القاهرة، يرتاده كثير من المدنيين والضباط وعائلاتهم، وفي خدمتهم أيضاً مجندون يقضون خدمتهم العسكرية يقدمون المشروبات والأطعمة المختلفة لمرتادي النادي، يرتدون زياً مدنياً موحداً تابعاً للنادي. ويقول أحدهم في حوار مقتضب لكاتب التحقيق "بالفعل أقضي فترة التجنيد وأنتظر انتهاء المدة بعد ثلاثة أشهر حتى أعود في أسرع وقت إلى الحياة الطبيعة لأبني مستقبلي".

يشير أحد رواد النوادي التابعة للجيش والتي تقدم "الشيشة" - فضل عدم ذكر اسمه ـ إلى أنه فوجئ بأن مجنداً في الجيش يقدم له "الشيشة"، ما أشعره بالحرج والاستغراب من أن مكان المجند هو المعسكرات والحدود وليس المقاهي، حسب تعبيره.

مرتبات زهيدة

يوضح "المجند م.ش 23 عاماً" أنه يتقاضى راتباً شهرياً مقداره 246 جنيهاً مصرياً (32 دولاراً أميركياً) ومنحة تقدر بمائة جنيه مصري (13 دولاراً أميركياً). يصف راتبه أنه "زهيد للغاية" مقارنة بما كان يتقاضاه خلال عمله قبل فترة التجنيد، ويشير إلى أنه فقد عمله نتيجة التجنيد، مطالباً بأن يراعي الجيش ظروف المجندين، خصوصاً أن معظمهم لديه التزامات شخصية، سواء رعاية الآباء أو استعداده للزواج، والبعض يكون متزوجاً بالفعل ولديه أبناء، ما يعرض بيته للتهديد.

ولا يستطيع المجند تحديد شكل الخدمة التي يقضيها من تلقاء نفسه أو حتى الامتناع عنها، لأن الدستور المصري ينص في المادة 86 أن التجنيد إجباري وفقاً للقانون، لكنه في المادة نفسها ربط الوجوب بالدفاع عن الوطن، وحماية الأرض، واصفاً ذلك بأنه شرف وواجب مقدس. "وبالتالي لا وجوب للخدمة في الأعمال الخدمية غير العسكرية أو الترفيهية" كما يرى المجند.
ويعطي القانون حق الإعفاء النهائي لبعض الحالات، من بينها عدم اللياقة البدنية لأداء الخدمة العسكرية، وكذلك تجاوز سن الثلاثين، وكان قد حصل على إعفاء مؤقت، بينما يعطي التأجيل لمن يلتحق بالدراسة سواء في الداخل أو الخارج حتى سن الثامنة والعشرين.

الخدمة الوطنية

حسب موقع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في الجيش، فإنه قد تم إنشاؤه بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من احتياجات القوات المسلحة الرئيسية لتخفيف أعباء تدبيرها عن كاهل الدولة وطرح الفائض بالسوق المحلي والمعاونة في مشروعات التنمية الاقتصادية بالدولة، والمعاونة في خلق فرص عمل للشباب الخريجين في المشروعات المنفذة، بالإضافة إلى التدريب والتأهيل لخلق كوادر متخصصة في كافة مجالات العمل، على حد قولهم.

ويعلن الجهاز من حين لآخر في بعض الجرائد والمواقع عن وظائف متخصصة، بينها وظائف لخريجي كلية الزراعة والطب البيطري ودبلوم الصناعة وغيرها.

مراحل التجنيد

يقول المجند "ح. د" إنه قبيل موعد التجنيد بنحو شهرين، تقدم بأوراقه لعمل "فيش وتشبيه" للاستفسار عن الصحيفة الجنائية له، تلتها مرحلة الكشف الطبي لمعرفة الحالة الصحية، بعد قبوله في الجيش حصل على موعد لتحديد نوعية السلاح ومن ثَم مكان الكتيبة ومركز التدريب.

حسب موقع وزارة الدفاع الإلكتروني فإن مدة التجنيد في الأساس هي ثلاث سنوات، لكن هناك تخفيضات حسب المؤهل الدراسي، فالمجند الذي يحصل على مؤهل "عالي" سنة واحدة في الخدمة وربما 3 سنوات في حالة اختيارهه كضابط احتياط وهنا تختلف أوضاعهم ورواتبهم داخل الجيش إذ تصل رواتبهم إلى 5 آلاف جنيه بعد عام ونصف العام تقريباً (800 دولار)، حسب "أ.ع ضابط احتياط سابق"، ومن الممكن أن يكمل الضابط المجند عمله في الجيش في حالة طلبه ذلك، أما الحاصلون على مؤهل متوسط فمدة تجنيدهم هي عام ونصف عام، بينما مدة تجنيد الحاصلين على مؤهل الإعدادية فأقل، تصل إلى ثلاثة سنوا كعسكري وغالباً ما يكون في قطاع الأمن المركزي التابع لوزارة الداخلية.

الحكاية فيها رشوة

يشير المجند "ح.د" إلى أن توزيع المجندين على مراكز التدريب والكتائب يحصل عشوائياً حسب خلفية كل شخص أو لياقته البدنية، ولكن بعض المجندين يكون لديهم "واسطة" تساعدهم إما في الإعفاء من خلال الاستبعاد من الكشف الطبي، أو توزيعهم في أماكن بعيدة عن العناء والشقاء، وذلك حسب درجة المعرفة أو القرابة، وبعض المجندين يكون استبعادهم عن طريق الرشوة أحياناً، ويبدأ المبلغ من 15 ألف جنيه (2000 دولار أميركي)، وتكون "الواسطة" عبارة عن رتبة لواء أو عقيد على الأقل.

ويذكر المجند أنه أحياناً تضيع الرشوة التي تساعد البعض في الحصول على الإعفاء من الخدمة بسبب استبدال الطبيب بآخر خلال يوم الكشف الطبي.

ابعد عن الحرف "ميم"

يوضح "م.ش" أن الشاب الذي لا يستطيع الوصول لوساطة تساعده في تسهيل فترة التجنيد، يوضع في أماكن الخطر مثل سيناء أو الأسلحة التي تبدأ بحرف "ميم" قائلاً "توجد قاعدة داخل الجيش تقول: ابتعد عن الأسلحة التي تبدأ بحرف ميم، وهي سلاح المدفعية وسلاح المشاة، وأفضل الأسلحة هي الدفاع الجوي، التي يتمنى الكثيرون قضاء خدمتهم فيه".