التاريخ يعضّ ذيله.. داعش والغبراء

08 ابريل 2014

داعش تعلن وجودها في حلب في يناير 2014 (أ.ف.ب)

+ الخط -

يستدعي العنوان، في منطق الاستدراج التاريخي، تقابلاً آخر، بين داحس والغبراء، الفرسين والحرب معاً. وفي مكر الاسترجاع، ما يفيد بأن هناك تشابهاً ما، يستعصي على التجاوز، نابتاً من بين تداعيات الحرب، وتلاوينها، وفاعليها في خريطة العرب الجديدة، وبين ما تثيره "داعش"، تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام، بحمولتها الراهنة، وبجرسها اللغوي أيضاً.
تقول القصة إن داحس والغبراء حرب ضروس، نشبت في منطقةٍ في نجد، وهي من أطول الحروب التي عاشها العرب. وكان أول الحرب سباقاً لمن يخدم المناذرة أفضل، والحرب دامت أَربعين عاماً، وشاركت فيها قبائل العرب، كلٌّ في ضفةٍ، وكلٌّ مع فرسٍ من الفرسين وقبيلتها. ولم تضع الحرب أوزارها، قرب قبور رمل عديدةٍ دفن فيها القتلى، إِلا بعد أَن تدخل المال، أَو الدعم المادي بلغة اليوم، واشترت القبائل دمها، وسلامتها، بالمال.
ما تعرفه منطقة العرب، على قاعدة التشابه بين حربٍ طويلةٍ وتنافسٍ، أصبح يتجاوز مطالب العصر في الديمقراطية إلى دفع المال وعودة الفدية إلى القاموس السياسي العربي المتداول. ما يعيدنا، حقيقةً ومجازاً، إلى طرح السوال: إِلى أين ستفضي بنا حروب داحس الجديدة وخلفاء الإلهام الرباني؟
 في الواقع، لا يدرك العقل الحائر، في خرائط الوضع العربي، ما ستسفر عنه الدورة الحالية من توازن الرعب في المنطقة العربية. فهل ستولد الدولة، أم سيحتمي العرب بالتاريخ، وليس بالعرق (القبيلة)، من جديد؟
قد لا نجد هناك، في سياق الترهل العام، فرقاً بين الرايتين، بلغة محمود درويش، وهو يمدح الظل العالي. لكن، من المحقق أَن سند السؤال موجودٌ في ما تعرفه الحروب الداخلية في أمصار عديدةٍ في المنطقة العربية، فقد قامت الحرب في العراق، وبعدها في سورية، على أمل تاريخيٍّ في إنهاء الدكتاتوريات وبناء الإنسان العربي الجديد، وهندسة قيمٍ ومؤسسات جديدة، وكان ذلك يعني عالماً جديداً.
ما حدث كان من مكر التاريخ، بالنسبة لهذه المنطقة، فالأمة التي ترى نفسها كثيرة السواد والعدد، ومترامية الأطراف في أرض الناس التي تسكنها، يكاد الخبر الرئيس الذي يطغى على أخبارها اليومية، وفي نشرات الدول، هو ما تفعله، أو تنوي فعله، جماعة "داعش"، باعتبارها التعبير المختصر عن الحلم الكبير في إقامة الدولة الإسلامية، بالاقتصار، في أول خلقها، على العراق والشام.


فدولة الإسلام في العراق والشام تخلق في العراق وضعاً دموياً، يجعلها المخاطَب السياسي، إن لم نقل الوحيد، ضمناً أحيانا، وصراحةً أحياناً أخرى، وفي ملتقى الاتهامات بين الفرقاء السياسيين في بلاد الرافدين، كما يجعلها في سورية، محور تقاطعاتٍ يلتقي فيها الفاعل الدولي، والحالم القومي، والباحث عن فرصة إقليمية، والراغب في دولة الرب، تقاطعاتٍ تصل الجنة بالفعل الاستراتيجي، في لعبة الأمم في بلاد بني أمية.
ولم نكن نتصور، في أخصب خيال سياسيٍّ ممكن، أَن تكون جماعة داعش، بسندها الممتد إِلى جماعة القاعدة، وبمنطق الصراع المفتوح في دولتين اثنتين من عصب المشرق العربي، (تاريخاً لا عرقاً، ثاني مرة)، أن تكون، باعتبارها التجسيد القبلي لدولة الخلافة، بعد قرابة أحد عشر قرناً على غيابها من على وجه الأرض، شكلاً من الأشكال الممكنة للدولة في بلاد العرب.
في المكر المأساوي للأمة، يبنى مفهوم الدولة، في الألفية الثالثة لدى العرب، في سرادق ممتد من إلهام الوعد الرباني إلى كهوف تورا بورا، حيث زعامة القاعدة تضع الخطط لإعادة تشكيل الأمة! ومن سوء المكر أن دور العالم، المحكوم بمعايير توازن القوى والمصالح الاستراتيجية والقيم الكونية، يكاد يبدو مثل ضرورة فنيةٍ، ليس إلا، في هذا العبث الذي يحث بنا الخطى نحو... خيمة القبيلة العتيقة.
لنمحص ما تقدمه "داعش" نموذجاً لدولتها.
الدولة، كجهاز أولاً: بادرت "دولة داعش"، في بداية تأسيس خريطتها السياسية، إلى فرض أسلوبها في الحياة، وحدّدت زاويتها في التعامل مع ما يجري في العراق وسورية، وأعلنت قيام الخلافة قبل الدولة. ومثيرٌ، حقاً، أن مواقف كثيرة، في دول الجوار، أو في عواصم القرار الدولي، تُبنى على أساس ما حددته "داعش"، كما لو أن المنطق يقتضي بلا ضرورة وجود الدولة أصلا.
الدولة ككيان، ثانياً: موجودٌ في بواطن الكتاب ومستندات الإفتاء أن هذا الكيان موجودٌ قريباً من القبيلة، باعتبارها الخلية الأولى لدولة الخلافة، المعلقة في حلم الإسلام السياسي، منذ قرون. ففي العالم الذي سبق أَن دفع الثمن غالياً، من أجل قيام كياناته الوطنية، تكون الدولة أَداةً لعقلنة التاريخ، كما بشر بذلك، وأثبته عالم الاجتماع الكبير، ماكس فيبر. لكن، يبدو أننا لا نحتاج كثيراً للعقل والعقلانية، الصنو المثال للديمقراطية والحداثة في حلم رواد النهوض العربي. وعليه، نحن نسلم بانفتاح الشرق على شرِّه الأقصى، وباللاحاجة لنا للدولة لعقلنة تاريخ، يلتفُّ على نفسه، ويعض ذيله، مثل أفعى نيتشه، في إشارة إلى العودة الأبدية.
أفعى تطول في التاريخ، وتضيق في الجغرافيا التي تبشرنا الحروب الإقليمية الدائرة فيها، بتقلص متزايد (يكفي التذكير بمخطوطات التقسيم والانفصال وعوامل الحروب الأهلية)، تعود فيه الشعوب إلى شعاب كياناتٍ، تعترف بدمها وحده، ولا حاجة لها إلى عالم اليوم.

 

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.