البيت الأزرق في الزّاوية

28 يناير 2019
سمير سلامة/ فلسطين
+ الخط -

نهاد التي اعتادت أن تجلس في الشّرفة كلّ عصر منذ ثلاثين سنة، لم تغيّر عادتها تلك أبدًا، حتّى في أكثر الظّروف غرابة وقساوة، كأن تقصف دبّابة إسرائيليّة الحيّ فينفتح ثقب عريض في جدار البناية ويبقى هناك إلى الأبد، أو يداهم الجنود البيوت بمدافعهم الرّشّاشة فيبيدون عائلة الحاج صبحي.

في أيّام الشّتاء ترتدي الرّوب الزّيتيّ وتغطّي يديها بقفّازين مزركشين، تعتمر قبّعتها الصّوفيّة الرّماديّة اللون، وتتلفّح بشال بنيّ من الجوخ الكشميريّ، تمشي بهدوء من وإلى مطبخها، تنير لمبة خافتة الإضاءة لم تغيّرها منذ سكنت البيت، تلقّم ركوة القهوة، تضع ملعقتي بنّ بالهال فوق المياه الباردة، تترك البنّ يغرق، تحرّك المزيج بهدوء وهي تضغط عينها اليمنى في محاولة لتبقي سيجارتها مشتعلة في طرف فمها، وحين تفور القهوة فوق الغاز، ترفع الرّكوة التي التصق بجانبها البنّ المحروق، تضع فنجانًا عربيًّا كبيرًا على الصينيّة، ثمّ تحملها بهدوء.

تمشي نحو الفاراندا بهدوء، تترك رائحة القهوة تداعب التّحف الخشبيّة الكبيرة والمحفورة بعمق، والتّماثيل الكثيرة واللوحات التي ترصّع جدران الصّالون المفتوح على الفاراندا، تفتح الباب بمقدّمة رجلها، تضع الصّينيّة على طاولة خشبيّة، بالية اللون جلبها أبوها من إحدى سفراته إلى الهند.

كانت نهاد البنت الثّالثة بين أخوين لعائلة السّبع التي اشتهرت بتجارة الخشب، وهي العائلة الوحيدة في الحيّ التي لم تتأثّر أحوالها الماليّة بمجيء الحرب وطول بقائها، فبقي والدها يرسل لهم الحوالات الماليّة بالدّولار، كان دومًا يعرف كيف يرسلها، لم تنقطع حوالاته طوال سنوات الحرب مثلما انقطعت زياراته، زارهم مرّة واحدة.

سفّر أخويها التّوأمين إلى أميركا، ولم يروه حتّى عاد جثّة في تابوت خشبيّ، أخواها لم يتمكّنا من حضور جنازته، والدتها توفّيت بعده بأشهر معدودة، وبقيت نهاد وحدها في ذلك البيت المطليّ باللون الأزرق، القابع في زاوية وحده، محافظًا على حجره الصّخريّ العتيق، الذي كان أبو عماد قد صقله خصّيصًا بطلب من والدها، بينما شهد الحيّ بعد الحرب تغيّرًا في ذائقة البناء، حيث صارت العمارات تشيّد بسرعة فاقت قدرة نهاد على مجاراتها، فاكتفت بالنّظر إليها من الفاراندا، ومن تشأ إقامة أيّ علاقات مع الجيران في الحيّ، بعد أن مات جميع جيرانها القدامى، والذين كانت آخرهم ريمونا الأرمنيّة التي سكنت الطّابق الثّاني من العمارة المقابلة لبيتها.

كعادتها كلّ يوم كانت نهاد تطفئ نور المصباح في الكوريدور، بعد أن تغلق باب الفاراندا وتضع صينيّة القهوة في المطبخ، ثمّ تتوجّه إلى غرفتها بعد أن تكون قد فتحت باب غرفة والديها وأطلّت رأسها منه، وتأكّدت أن لا شيء قد عكّر صفو المكان، ثمّ تعود إلى فراشها، تضع يديها فوق صدرها تتمم بعض آيات وأدعية وتغفو قبل أن تنهيها.

لم تلحظ أنّ بيت ريمونا قد سكن إلّا منذ يومين، رأت رجلًا عاري الصّدر يقف على الفاراندا، كان يقف مثل تمثال من الصّخر، جلده يلمع تحت أشعّة الشمس، تقدّمت منه سيّدة جميلة، حضنته من خلف، بدا لنهاد أنهما عروسان، هي لم تتزوّج بعد أن توفي خطيبها في الحرب، ليس تعفّفًاً إنّما بدا لها وكأنّ الحرب ابتعلت الرّجال، ومن بقي منهم بعدها صار شبحًا.

مرّت شهور ونهاد على حالها من وإلى مطبخها مع ركوة القهوة، لفت الثّنائيّ انتباهها ولكنّها اكتفت بهزّ رأسها تحيّة من وقت إلى آخر إذا ما حياها أحدهما. في يوم قبيل الغروب، رأت السّيّدة الجميلة، تتشاجر مع زوجها، حاولت نهاد أن لا يراها أحدهما وهي تسترق النّظر إليهما، بدا الاثنان منفعلين جدًّا، كان الرّجل يقوم ويقعد والمرأة تلوّح بيديها كأنّها تطرد أشباحًا من أمام وجهها.

كان برد تشرين يحزّ قدميها الضّخمتين، فلملمت أغراضها القليلة وهمّت بالدّخول، وفيما هي تغلق باب الفاراندا، إذا بها ترى المرأة تنادي من وراء الزّجاج وكأنّها تستغيث، لم تدر نهاد ما كان عليها أن تفعله، تجمّدت في مكانها والصّينيّة في يدها، وحين تقدّم الرّجل من الزّجاج ليرى مع من تتواصل زوجته، تراجعت إلى الخلف، فاندلق منها ما كان قد بقي في الرّكوة من قهوة وتناثرت أعقاب سجائرها فوق سجّادة الصّالون النّبيذيّة اللون، فانحنت تلتقطها بيد ترتجف وعين على النّافذة المقابلة، لم تنم جيّدًا تلك الليلة ولم تتفقّد غرفة والديها.

كانت نهاد تقصد سوق الخضار كعادتها كلّ يوم جمعة، حين سمعت صوتًا ناعمًا يسلّم عليها "سيّدة نهاد كيف حالك؟" التفتت فرأت السّيّدة الجميلة جارتها، سلّمت عليها ببرود، لم تشأ أن تدع لها فرصة كي تتمادى أكثر في سلامها، قالت باقتضاب "فرصة سعيدة" ثمّ ثبتت الكيس النّايلون الأصفر في يدها جيّدًا ومشت خطوتين، كان قد مرّ على حادثة استغاثتها بها يومان، قالت السيّدة الجميلة "أوّد فقط أن أعبّر لك عن امتناني، هل تسمحين لي بزيارتك؟ سأحضّر كيكة القرفة والعسل، ألاحظ أنّك تحبّين القهوة وسيكون طعمها مذهلًا مع القهوة، ما رأيك اليوم عصرًا؟" لم تستطع بكلّ ما أوتيت من قسوة من أن تردّ بعبوسها تلك السّيّدة، فهي قالت جملتها، ثمّ اختفت وكأنّ الأرض ابتلعتها.

أقفلت نهاد الأبواب جيّدًا، تأكّدت من أّنّ كلّ شيء جيّد لاستقبال السّيّدة الغريبة. عند الرّابعة والنّصف دقّ جرس الباب، توجّهت نهاد نحوه بهدوء، فتحته بهدوء، كانت قد هيّأت وجهًا باردًا بملامح من زجاج لاستقبال الضّيفة، لكنّ مجيء الزّوج معها، أفسد على نهاد محاولة إظهار لامبالاتها وضيقها بالزّيارة، فلم تتمالك من المفاجأة ألّا تفتح عينيها دهشة، دخل الزّوجان من دون أن تقول كلمة واحدة، بقيا بانتظار دعوتها لهما بالدّخول بضع دقائق، ثمّ انتبهت ودعتهما إلى الفارندا، كانت قد أعدّت القهوة ووضعت الصّينيّة هناك، وحين رأت السّيّدة الجميلة الفارندا صرخت "كم هي جميلة هذه الأزهار يا سيّدة نهاد، يدك خضراء، تفضّلي لقد أحضرت لك الكعكة كما وعدتك أرجو أن تحبّي طعمها".

تناولت نهاد الصّحن من السّيّدة، قصدت المطبخ، وضعت بعض الصّحون والشّوك وعادت، خفّ إليها الرّجل وتناول منها الصّحون، ووضعها على طرف الطّاولة الخشبيّة، جلسوا بين صمت وكلام، عرفت أنّهما عادا من الخارج حديثًا، كان للزّوج تجارة في بلد أفريقي، ومع تغيّر الأحوال اضطّر أن يصفي أعماله ويعود.

لم تخبرهما الكثير عن حياتها، لم تجد ما تقوله، ولم تشأ أن تطلع أحدًا على حياتها، كانت تختار العيش بهدوء، بدت السّيّدة منفتحة جدًّا، صوتها رنّان، تتكلّم بطلاقة وتخلط في حديثها لغات ثلاث، العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، اعتذرت بأنّ ذلك عائد إلى طول إقامتها في أفريقيا، لم تهتمّ نهاد، فتعليمها سمح لها أن تفهم اللغات الثّلاث، ولو أنّها لم تكن تردّ سوى بالعربيّة.

مرّ على نهاد يومان صعبان بعد تلك الزّيارة، مرضت مرضًا شديدًا، كادت أمعاؤها تتمزّق، وانتابتها نوبات من الاستفراغ أمرضتها. لم تتصل بطبيب ولا حتّى قصدت الصّيدليّة كي تشري دواء، حتّى الفارندا، لم تخرج إليها ثلاثة أيّام متوالية، ولا مرّت بغرفة أبيها. تحاملت على نفسها وقامت من السّرير تريد المطبخ، شعرت بعطش قاتل، ووجع رأس كاد يجعلها تحطّم رأسها، مشت بهدوء إلى مطبخها المواجه للفارندا، فلمحت وهي تسير نحوه ممسكة بمعدتها، رجالًا يقفون على شبّاك الجيران في الطّابق الثّاني، كانوا يضعون لائحة مكتوب عليها "للبيع" شربت كوب ماء على مهل وعلى دفعات بطيئة، تناهى إلى سمعها صرير باب، تحاملت ومشت إلى الصّوت، فإذا بباب غرفة والديها مفتوح، رمت كوب الماء من يدها واندفعت إلى الغرفة، خشيت أن يكون شيء ما قد حصل للصّندوق، لكنّها وجدته على حاله، صامتًا كما هو منذ جاء أبوها فيه.

حين توفي والد نهاد، جاؤوا بتابوته إلى البيت، كانت تلك وصيّته، لم يكن رجلًا متديّنًا يومًا، ولا هو غيّر دينه كي يؤمن بعادات بلد مكث فيه سنين طويلة من أجل الألماس، لذلك حين عرفت من محاميه وصيّته بأن يبقى التّابوت في البيت أدركت أنّ في الأمر سرًّا، بعد الجنازة، كان لديها الوقت الكافي كي تكتشف سرّ التّابوت، كان والدها قد أوصى أن يلفّ التّابوت بالحرير من الدّاخل، ثمّ أخفى في طيّة داخله أحجارًا من الألماس، عرف أنّه لن يسلم من موت محتّم، فدسّ الماس في التّابوت، أبقت نهاد التّابوت في تلك الغرفة خمس عشرة سنة، لم تحتج إلى تلك الأحجار ولا حاولت أن تتخلّص منها أو تبيعها.

لم ترد أن تفشي أسرارًا، ولا داعي أن تفتح العيون على ثروتها أكثر، أخواها لا يكفّان يطالبان بإرثهما، وهي منذ خمس عشرة سنة تنكر وجود أيّ نقود، كان عليها أن تحمي مستقبلها من المجهول، جميعهم تركوها ومضوا، فلمَ لا تبقى مع المال إذا كان وحده من يستطيع حمايتها من شرور العالم؟ حين تماثلت للشّفاء، قصدت محّل الخضار، رحّب بها سليم البائع بحفاوة وسألها عن سبب غيابها، فأخبرته بمرضها المفاجئ، قال لها كعادته حين يريد أن يشي بسرّ من أسرار الحي "هل عرفتِ أنّ الزّوجين حدّاد قد سافرا؟" ظلّت نظرتها باردة وهي تتناول حبّات الكوسى وتضعها في الكيس. سألته "هل تعرف من يبيع سيّارات مستعملة؟"

جلست عصرًا في الفارندا، وضعت صينيّة القهوة التي اعدّتها بمزاج رائق أمامها، ورشفت من فنجانها الكبير رشفة سرى منها الدّفء في عروقها. بقيت في الفارندا إلى ساعة متأخّرة يومها، أرادت أن يعمّ المكان الليل، هناك ما كان عليها أن تتفقدّه قبل أن تقصد غرفتها لتنام، الليل وحده قادر على إخفاء كلّ شيء حتّى الموت.

في تلك الليلة التي زارها جاراها، تناهى إلى مسمعها وهي في المطبخ صوت المرأة تهدّد الرّجل وتقول"إن لم تقتلها أنت سأقتلك أنا" فتسلّلت نحوهما من باب خلفيّ يصل غرفتها بالفارندا من جهة غير مرئيّة، ورأتها وهي تدسّ لها شيئًا في الكعكة، احتارت كيف تتصرّف، ثمّ تذكّرت أنّ لديها سمومًا تستعملها لطرد الجرذان، التي يستهويها خشب التّابوت، وضعت منها في كأس العصير الذي قدّمته للسّيّدة الجميلة بيدها، أكلت هي من الكعكة لقمة وأبقتها في حلقها، حين بدأت علامات التّسمّم تبين على المرأة، قالت للزّوج الحائر أن يحملها إلى الصّالون، وحين ماتت قالت للزّوج المصدوم بهدوء "أعرف أنّك لم تكن تحبّها، احملها وسأريك أين تدفنها، سأتركك تعيش حياتك، واعتبر حرّيّتك هديّة منّي" حمل الزّوج الجثّة، دفنها حيث أشارت نهاد، ثمّ صبّ فوق المكان باطونًا.

في الشّهور التي تلت لم تحرّك نهاد سيّارتها من فوق العتبة التي صبّتها خصّيصًّا لذلك، كان أبناء الحيّ يتندّرون بتلك القصّة، فيما هي تحتسي قهوتها بهدوء على الفارندا في بيتها الأزرق الوحيد في الزّاوية.

*كاتبة من فلسطين

 

المساهمون