البنية الصحية للفلسطينيين هدفاً إسرائيلياَ

09 اغسطس 2015
+ الخط -
يعد تدمير البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني، المُتواصل منذ بداية إقامة إسرائيل، بشكل أساس، هدفاً أساسياً لتهجير المواطنين الفلسطينيين من أراضيهم، حتى تتمكن إسرائيل من تحقيق شعار الحلم الصهيوني الذي زعم أنه يعمل على استيطان "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"! 
هذا ما يترجمه الواقع على المستويات كافة، فقد حاول بن غوريون تحقيق حلم هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، بتهجير الجزء الأكبر من الفلسطينيين لحظة قيام دولة إسرائيل. فالأرض بلا شعب، من وجهة نظر الصهيونية وهيرتزل، فيما هم أول من يُدرك أن فلسطين كانت مليئة بسكانها وفلاحيها وعمالها ومتعلميها ومعاهدها ومدارسها وكل مقومات الشعب، لكن الحقيقة أن هذا شعار مرفوع لحُلم كانوا دوماً يعملون لتحقيقه، وهو تفريغ فلسطين من سكانها العرب.
بعد نكبة 1948 وخروج مئات آلاف اللاجئين من ديارهم، طرداً وعدواناً وتآمراً من أطراف عربية، رفع بن غوريون، وهو أول رؤساء حكومات إسرائيل، شعار "الكبار يموتون والصغار ينسون"، بمعنى أن الأرض التي احتلت وأُفرغت لن يعود لها أصحابها الشرعيون، بحسب ما اعتقد يومها.
بدأ الكبار فعلاً يموتون، وهذه سنة الحياة، لكن مقولة النسيان لم تتحقق، بل أصبح المُهجر الفلسطيني الابن أكثر تعلقاً ونضالاً وعملاً من أجل وطنه، وشعار حق العودة أصبح في أوروبا عند الجالية الفلسطينية وسيلة لتجميع قواها، للضغط، في أوطانها الجديدة، للعمل لتغيير سياسات الغرب وإقرار حق العودة، وانطلاق شرارة المُقاطعة الاقتصادية لإسرائيل المدعومة من تلك الجالية المُهجرة، وهي المقاطعة التي قلبت حُلم بن غوريون إلى كابوس لنتنياهو، فإسرائيل بدأت تستشعر خطر هذا التوجه الجديد.
بعد نكسة 1967 واحتلال أجزاء كبيرة من فلسطين، وجد الإسرائيليون أنفسهم في مشكلة استعصاء تحقيق حُلم هيرتزل الأول، لم يترك الفلسطينيون وطنهم، ولم تستطع آلة القمع الإسرائيلية أن تُجبرهم على الفرار أو الهجرة، فعادت إسرائيل إلى نقطة البداية، وهي العمل على إفراغ الأرض الفلسطينية.

منذ اللحظة الأولى للنكسة، ضمت إسرائيل القدس الشرقية، وبدأت تدمير البنية التحتية الفلسطينية الإنتاجية، وما تبعها من تحويل الفلسطينيين، من مُنتجين فاعلين إلى مستهلكين للبضائع الإسرائيلية. ومثالاً على هذه السياسة، قامت إسرائيل بشكل ممنهج، بتدمير البنيه الصحية، كإغلاق مستشفيات ومؤسسات صحية فلسطينية عديدة، ففي القدس تم إغلاق مستشفيي الأطفال الهوسبيس، وإغلاق بنك الدم والمُختبر المركزي ومركز مكافحة الأورام، وتم تحويل مستشفى الشيخ جراح والمستشفى المحلي إلى مراكز للشرطة الإسرائيلية.
في رام الله، تم إغلاق مستشفى الأمراض المُعدية، وتقليل عدد الأسرّة على مدى عشرين عاماً، من 209 أسرة في 1967 إلى 116 سريراً عام 1987، بينما تزايد السكان من 115 ألف نسمة إلى 140 ألف نسمة (مركز أرض فلسطين للدراسات والتوثيق الفلسطيني). ثم تم الأمر نفسه في باقي المدن الفلسطينية، مثل نابلس، الخليل، طولكرم، بيت جالا، أريحا، بيت لحم. وقامت إسرائيل بالإضرار بصناعة الأدوية التي كانت قبل عام 67، وعزل القدس صحياً عن باقي الضفة الغربية وربطها إداريا وماليا، ومنع المرضى الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة من تلقي العلاج في مستشفيات المدينة، إلا بإذن خاص.
ولم تؤد سياسة بناء جدار الفصل العنصري فقط إلى مصادرة أراض جديدة، وقلع الأشجار المثمرة، ومنع الفلاح من الوصول إلى حقله، والعامل إلى مكان عمله، والتلميذ إلى مدرسته، بل أيضاً منعت المريض من الوصول إلى مستشفاه أو طبيبه. فبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية للعام 2015، لم يعد أكثر من 32% من الفلسطينيين في الضفة الغربية قادرين على الوصول إلى مراكزهم الطبية، ولم يعد في وسع أكثر من 14% من سكان القدس (407 آلاف نسمة) في القدس الشرقية التواصل مع هذه المراكز، وهم بحاجة إلى تجاوز الجدار والحصول على إذن بذلك. وقد جعل تقطيع أوصال الضفة الغربية بالجدار والحواجز والمستوطنات وصول الحالات المُستعجلة إلى المستشفيات، أو النساء الحوامل للولادة، صعبا بل ومستحيلا في بعض الحالات، كذلك إعاقة حركة الطواقم الطبية وسيارات الإسعاف.

ويشكل حصار قطاع غزة، والذي يؤدي إلى حرمان مئات الآلاف من الحصول على العلاج والغذاء والماء الصالح للشرب، عقاباً جماعياً لانتخاب حركة حماس وسيطرتها على القطاع. نتذكّر ما كان يقول الإسرائيليون سابقاً في عهد ياسر عرفات، والذي حاصره الإسرائيليون سنوات ثم اغتالوه، لأنهم كانوا يبررون ذلك بأنه العقبة الرئيسية أمام السلام، وهو ما يبرر بنظرهم مآسي الفلسطينيين ومعاقبتهم الجماعية. هل انتهت معاناتهم باختفاء عرفات وموافقة القيادة الجديدة على التراجع عن مبدأ الكفاح المسلح والاكتفاء بالمفاوضات كوسيلة وحيدة للسلام؟ بالطبع لا، تزايد الاستيطان أكثر من أي وقت مضى، وتزايدت مصادرة الأراضي الفلسطينية والتضييق على الفلسطينيين والاعتداء عليهم، حتى حرق الأطفال وأهاليهم وهم نيام، كما حدث، أخيراً، مع الطفل علي دوابشة وأسرته.
ما مصلحة إسرائيل، إذن، في منع المريض من الوصول إلى العلاج، والتلميذ إلى المدرسة؟ إنهم في الحقيقة لا يعاقبون أحداً، كما يدعون، على رفضه السلام معهم، أو معاقبة الشعب الفلسطيني لرفضه احتلال وطنه، لكنهم يطبقون سياسة ممنهجة، عملت، منذ البدء، على تفريغ البلاد من سكانها بكل الوسائل.
قد نتحمل الصعاب فترة طويلة، لكننا نتمنى، دائماً، أن تعيش أجيالنا اللاحقة في وضع جيد، وهذا بالضبط ما لا تريده إسرائيل، بل تسعى إلى أن يدفع المجتمع الفلسطيني أبناءه للهجرة إلى خارج الوطن. قد يحصل ذلك أحياناً، حتى إن بعضهم ركب البحار وغامر بحياته، ومنهم من مات غرقاً، لكن ذلك لم يؤد إلى تغيير المعادلة الموجودة حالياً، وهي أن الفلسطيني ثابت في أرضه وأرض أجداده، ولأول مرة، بحسب التقديرات الإحصائية لهذا العام، تجاوز عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية عدد اليهود.
الصهيونية فكر قادم من القرن الثامن عشر، وليس فكراً استعمارياً من القرن التاسع عشر، لأنه فكر المجرمين الذين رُحلوا، وأُبعدوا من أوروبا عقابا لهم، إلى المنفى في أميركا المُكتشفة حديثاً أو أستراليا، وليس فكر المُستعمرين أصحاب المصالح الاقتصادية الذين كانوا يبحثون عن مصالح دولهم وتحريك عجلة الثورة الصناعية، بنهب الثروات الطبيعية عند الآخرين. هو فكر مبني على إنهاء الآخر، وليس على استغلاله والتعايش معه، كما حدث مع الاستعمار الفرنسي، أو البريطاني، لدول كثيرة، أو حتى جنوب أفريقيا العنصرية.
على المفكرين والمحللين السياسيين أن يُظهروا هذا البُعد في الفكر الصهيوني، لتعرية الصهيونية وإظهارها على حقيقتها أمام الرأي العام الغربي والعالمي، بهدف تقوية حملة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، كذلك إسناد وتقوية الأطراف الغربية الرسمية والشعبية التي تدعم الحق الفلسطيني.