البقرقاشي

15 ديسمبر 2015

وجه (علي العامري)

+ الخط -

كان كافياً أن أقرأ اسمه على المربّع النحاسي الصغير الذي يلصقه سائقو السيارات العمومية داخل سياراتهم، ليعرّف بأسمائهم ورخص قيادتهم، كي أنزلق إلى جانبه، منقادةً إلى الكلام، أنا التي أتفادى عادة، كالطاعون، الأحاديث التي يباشرها سائقو التاكسي مع ركّابهم، من دون مقدمةٍ أو سابق إنذار. وإن وقعت الواقعة واندلق دلو الكلام عليّ، اكتفيتُ بهزةٍ من رأسي، قبل أن أضع وجهي في الطريق، مستعينةً بالهواء المتدفق من النافذة، وبلعنات أطلقها سرّاً على غبائي الذي جعلني أقع في فخ الجلوس في المقعد الأمامي.

لكن، ليس هذه المرة. فالمدعوّ "البقرقاشي" لم يكن يحب الكلام. ووجدتني أتطفل عليه، وأسأله: هل أنت من بقرقاشا، تلك القرية الصغيرة التي بجانب قريتي بشرّي؟ فنظر بالكاد إليّ، وتمتم: أنا من دير الأحمر. لا يمكن أن تكون في الأصل من هناك، قلتُ، وإلا فمن أين لك هذا الاسم؟ فردّ: أجل، جدّ أبي كان من هناك. عرّفتُ بنفسي، فرحّب ولم يزد ولم يعلّق، فأردفتُ: دير الأحمر قريبة من عيناتا، حيث كان لجدّي طنوس هناك أرض. هل تعرف عيناتا؟ ضحك الرجل السبعيني، في سيارته المهلهلة، كمن يقول: أأعرفها؟ وَلَو؟

ثم وجدتني أتزحلق فوق سهل شاسع من الصور والذكريات، صعوداً ونزولاً، تعرّجاً وانسياباً، فرحتُ أخبره عن والدي وكيف كان، وعن الأرض الجميلة التي كان في وسطها النبع، وكيف اضطروه إلى بيعها، تفاديا لإسالة الدم، فدفع بثمنها كلّها جزءاً من سعر شقة في بيروت.

كنت أحكي، وأنا أنظر في الطريق التي كانت تنهش جُملي بنهم، كأنّ ما ألقيه إليها يمتصّه أسفلتُها المعفّر بالتراب، فكنت أتمنى لو أني أختصر الشهيق والزفير، كسباً لمزيد من الوقت. 

قلت إن والدي كان رجلاً يضحك، وأخبرته كيف كان يمسرح دخوله إلى الحمّام، فيلفّ المنشفة أعلى رأسه، كما تفعل النساء، ثم يضع قبقب أمي في أطراف أصابعه، ويمشي الهويناء، فنضحك، نحن الأولاد، ونتقافز من حوله، حتى تردعنا أمي التي كانت، على الرغم من حسّ الفكاهة لديها، مصابةً بالاكتئاب.

وقلت إن والدي كان رجلا شهماً، ذا قلب كبير، إذ كان ينحاز، دائماً، إلى الهامشيّ والضعيف. من طفولتي، لا أذكر حضن أمي، بل حضنه هو، لا صوت أمي، بل صوته هو، لا ذراعي أمي، بل ذراعيه هو. أمي كانت منحازة إلى الصبي الذي جاء بعد ثلاث فتيات، فانحاز هو إليّ، ورفعني إلى قلبه.

وقلت كان أبي يغني المواويل الشرقية والعتابا، وكان له صوت جميل حنون، يشقق الروح تأثّراً، قبل أن يرسل إليها ماءً رقراقاً، يتغلغل بين شقوقها ويبرّد أثلامها.

صيفاً، حين تغادر العائلات حرّ الصيف إلى الجبال، كان أبي يبقى، ويشقى، ثم يعود إلينا في نهاية الأسبوع، محمّلاً بالبطيخ والكرز وبرازق الشام، وما يتّسع له صندوق سيارته الشيفروليه البيضاء من أطايب ومفاجآت، ثم يجلس إلى المائدة التي أعدّتها أمي خصيصاً، فلا يحلو له أن يمسّ ما عليها، إلا متى دعا كلّ من عبر من أمام بيتنا الموجود عند تقاطع طريقين، فكان قدومه كل سبت يتحوّل إلى احتفال.

ينام على فخذيّ، بعد غداء يوم الأحد، ويسألني أن أنقّب في فروة رأسه عن قملٍ يرعى فيها، فإن فعلتُ ووجدت واحدة، أعطاني ليرتين. كنتُ أبحث باجتهاد، وحين لا أجد، ويكون قد غفا القيلولة من مداعبات يديّ الصغيرتين شعره، كنت أسحب نفسي على مهلٍ، وأروح أفتش عن نملاتٍ صغيرات أقبض عليها، وأضعها في محرمة بيضاء، فأريه إياها حين يستيقظ، وأقبض لقاءها حفنة من الليرات...

قال السائق وصلتِ، فأذعنتُ ونزلت.

كيف أصابني مسّ التذكّر والإخبار هكذا، ومن أين تدفق فيّ كل هذا الكلام؟

من موضعٍ يغلي بالشوق إلى والدي. أجل، ذاك الذي عند أعلى الصدر، المائل قليلاً إلى اليسار.

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"