27 أكتوبر 2024
البغدادي وداعش والداعشية
بعد اختفاء نحو خمس سنوات، وبعد ذيوع أنباءٍ مُتضاربة عن مصيره، باغت زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أبو بكر البغدادي، العالمَ بظهوره منذ أيام، حيث نشرت مؤسسة الفرقان، الذراع الإعلامي للتنظيم، مقطعاً مرئياً في نهاية إبريل/ نيسان الماضي، مدّته نحو 20 دقيقة، عنوانه "في ضيافة أمير المؤمنين"، ظهر فيه البغدادي متحدّثاً، وهو يفترش الأرض مرتدياً ملابس ثقيلة، حيث بدا بقوام ممتلئ ولحية مُحنّاة على الأطراف، وحوله ثلاثة من رجاله، ووضع إلى جواره سلاحاً. وكان أول ظهور للبغدادي في يوليو/ تموز 2014 في خطبة الجمعة في مسجد النوري في الموصل شمال العراق، عقب سيطرة "داعش" عليها، حيث أعلن قيام دولة الخلافة، ونصّب نفسه خليفة للمسلمين، وخلع عليه أتباعه لقب "أمير المؤمنين".
حمل المقطع دلالات عديدة ذات أبعاد شخصية، وتنظيمية، ورسائل مهمّة، فهذا الظهور الأوّل للبغدادي، في أعقاب خسارة التنظيم معقليْه في الرقّة السورية والموصل العراقية، إلى جانب تصفية جيبه الأخير في بلدة الباغوز (شمال شرق سورية)، حيث أراد البغدادي التأكيد على أنّه ما زال حيّاً سليماً، فقد بدت عليه سمات التنعّم والشعور بالأمان، فهو ليس طريداً أو ملاحقاً، بل آمناً مطمئنّاً يتكلّم بهدوء.
ومن ناحية أراد التأكيد على أنّ التنظيم لا زال باقياً موجوداً على الأرض، لم يتمّ القضاء عليه، وما زال فاعلاً وقادراً على التمدّد والانتشار، وتوجيه ضربات إرهابية جديدة موجعة، على الرغم من الخسائر الهائلة التي مُنيَ بها في الفترة الأخيرة، وأدّت إلى تشرذم فلوله المُتبقية بعد انفراط عِقدها.
اعترف البغدادي بالهزيمة في الباغوز، (كان المُتحدّث باسم "داعش"، أبو الحسن المهاجر، قد
أنكرها)، وقال إنّ معركة الباغوز انتهت، وقد تجلّت فيها همجية ووحشية، وزعم أنّ عناصر "داعش" نفّذوا 92 عملية في ثماني دولٍ، ثأراً لـ"إخوانهم في الشام" على حدّ وصفه. والأسوأ تبنّيه تفجيرات أحد الفصح (21 إبريل/ نيسان) في سريلانكا، وقال إنها ثأر للباغوز. وقد سقط أكثر من 350 قتيلاً، في واحدة من أبشع الجرائم الإرهابية.
شدّد البغدادي على أنّ المعركة طويلة، وأن عناصر تنظيمه سيأخذون بالثأر، وظهر في التسجيل ممسكاً بملّفات "ولايات" تابعة له، حيث أعلن تأسيس ولاية وسط أفريقيا في الكونغو، وولاية الصحراء أو غرب أفريقيا في مالي وبوركينا فاسو، بعد تأسيس ولاية شرق أفريقيا في الصومال، إلى جانب تمدّده في مناطق أخرى، مثل ولايات خراسان والقوقاز وتركيا، في مشهدٍ يهدف إلى استعراض القدرات التنظيمية الكبيرة لـ"داعش"، وإظهاره بأنّه تنظيم عابر للحدود، منتشر في مختلف القارات، وأنّ الانكسارات الكبيرة التي حاقت به لم تكسر شوكته.
يبدو واضحاً أن "داعش" يمرّ بتحوّل استراتيجي، وإعادة هيكلة لخلاياه وقواعده التنظيمية، يتخلّلها تغيير في تكتيكاته العملياتية، بعد الصدمة التي أحدثها انهيار "دولة الخلافة"، وأنه انتقل من مرحلة خلافته المزعومة، إلى مرحلة حرب العصابات على طريقة الكرّ والفرّ، عبر توجيه ضرباتٍ في مناطق مختلفة تهدف إلى الثأر والانتقام الدموي، لما حاق بخلافته المنهارة، وأنّه تحوّل من طور التنظيم المتماسك المسيطر على بقعة جغرافية، إلى طور الحالة الداعشية السائلة التي تتشكّل عبر ظهور خلايا تابعة له في مناطق متفرّقة، تعمل وفقاً لنهجه التكفيري الإجرامي.
إبّان الحملة العسكرية للتحالف الدولي على "داعش" في سورية والعراق، ركّزت غالبية
التحليلات الدولية والإقليمية على الجانب الأمني والعسكري، ومحاولة التنبّؤ بمدى نجاح الحملة في القضاء على داعش، من دون التطرّق إلى محاولة تفكيك البنية المجتمعية التي تقوم عليها السردية الداعشية، عبر استقراء الأسباب والشروط الموضوعية التي أدّت إلى صعود التنظيم بهذا الشكل السريع، وكيفية نجاحه في جذب آلاف الشباب، الذين انضووا تحت رايته، على الرغم من خياره السوداوي والعدمي إلى أبعد مدى، بل إنهم رأوا فيه "بريق الأمل" متمثّلاً في "يوتوبيا" الخلافة واستعادة صورتها الوردية من التاريخ (!).
على الرغم من انهيار خلافته الموهومة، وحتى ولو قُتِلَ البغدادي، ما زالت الظروف الموضوعية التي أنتجت داعش قائمة، فالسردية الداعشية العدمية لا تنتشر إلا في مناخ من الإحباط، واليأس، والتهميش، والإقصاء وانسداد آفاق التغيير السلمي، والاستقطابين، الطائفي والمذهبي، إلى جانب الأزمات الاجتماعية الطاحنة، فضلاً عن الأزمة السُنّية في العراق وسورية، والتدخّل الإيراني العلني شديد الخشونة في الشؤون الداخلية لعدّة دول عربية. كلّ تلك العوامل تمثّل الحاضنة الشعبية، والروافع المجتمعية التي يقوم عليها "داعش"، والقضاء عليه يستلزم التعامل الناجع معها، وتجفيف تلك المنابع، وهذا لم يتحقق بعد، كلياً ولا جزئياً.
حمل المقطع دلالات عديدة ذات أبعاد شخصية، وتنظيمية، ورسائل مهمّة، فهذا الظهور الأوّل للبغدادي، في أعقاب خسارة التنظيم معقليْه في الرقّة السورية والموصل العراقية، إلى جانب تصفية جيبه الأخير في بلدة الباغوز (شمال شرق سورية)، حيث أراد البغدادي التأكيد على أنّه ما زال حيّاً سليماً، فقد بدت عليه سمات التنعّم والشعور بالأمان، فهو ليس طريداً أو ملاحقاً، بل آمناً مطمئنّاً يتكلّم بهدوء.
ومن ناحية أراد التأكيد على أنّ التنظيم لا زال باقياً موجوداً على الأرض، لم يتمّ القضاء عليه، وما زال فاعلاً وقادراً على التمدّد والانتشار، وتوجيه ضربات إرهابية جديدة موجعة، على الرغم من الخسائر الهائلة التي مُنيَ بها في الفترة الأخيرة، وأدّت إلى تشرذم فلوله المُتبقية بعد انفراط عِقدها.
اعترف البغدادي بالهزيمة في الباغوز، (كان المُتحدّث باسم "داعش"، أبو الحسن المهاجر، قد
شدّد البغدادي على أنّ المعركة طويلة، وأن عناصر تنظيمه سيأخذون بالثأر، وظهر في التسجيل ممسكاً بملّفات "ولايات" تابعة له، حيث أعلن تأسيس ولاية وسط أفريقيا في الكونغو، وولاية الصحراء أو غرب أفريقيا في مالي وبوركينا فاسو، بعد تأسيس ولاية شرق أفريقيا في الصومال، إلى جانب تمدّده في مناطق أخرى، مثل ولايات خراسان والقوقاز وتركيا، في مشهدٍ يهدف إلى استعراض القدرات التنظيمية الكبيرة لـ"داعش"، وإظهاره بأنّه تنظيم عابر للحدود، منتشر في مختلف القارات، وأنّ الانكسارات الكبيرة التي حاقت به لم تكسر شوكته.
يبدو واضحاً أن "داعش" يمرّ بتحوّل استراتيجي، وإعادة هيكلة لخلاياه وقواعده التنظيمية، يتخلّلها تغيير في تكتيكاته العملياتية، بعد الصدمة التي أحدثها انهيار "دولة الخلافة"، وأنه انتقل من مرحلة خلافته المزعومة، إلى مرحلة حرب العصابات على طريقة الكرّ والفرّ، عبر توجيه ضرباتٍ في مناطق مختلفة تهدف إلى الثأر والانتقام الدموي، لما حاق بخلافته المنهارة، وأنّه تحوّل من طور التنظيم المتماسك المسيطر على بقعة جغرافية، إلى طور الحالة الداعشية السائلة التي تتشكّل عبر ظهور خلايا تابعة له في مناطق متفرّقة، تعمل وفقاً لنهجه التكفيري الإجرامي.
إبّان الحملة العسكرية للتحالف الدولي على "داعش" في سورية والعراق، ركّزت غالبية
على الرغم من انهيار خلافته الموهومة، وحتى ولو قُتِلَ البغدادي، ما زالت الظروف الموضوعية التي أنتجت داعش قائمة، فالسردية الداعشية العدمية لا تنتشر إلا في مناخ من الإحباط، واليأس، والتهميش، والإقصاء وانسداد آفاق التغيير السلمي، والاستقطابين، الطائفي والمذهبي، إلى جانب الأزمات الاجتماعية الطاحنة، فضلاً عن الأزمة السُنّية في العراق وسورية، والتدخّل الإيراني العلني شديد الخشونة في الشؤون الداخلية لعدّة دول عربية. كلّ تلك العوامل تمثّل الحاضنة الشعبية، والروافع المجتمعية التي يقوم عليها "داعش"، والقضاء عليه يستلزم التعامل الناجع معها، وتجفيف تلك المنابع، وهذا لم يتحقق بعد، كلياً ولا جزئياً.