يشكل ارتفاع نسبة البطالة في موريتانيا إلى مستويات قياسية أحد التحديات الأكثر صعوبة التي تواجه الحكومة. ومع استمرار تدفق الخريجين من الجامعات إلى سوق العمل وتراجع أداء القطاع الخاص وإصرار المسؤولين على تجاهل الظاهرة، يجد الباحثون عن العمل صعوبة كبيرة في إيجاد وظائف حتى في التخصصات العلمية التي كانت مطلوبة أكثر من غيرها كالطب والهندسة.
ونتيجة لهذا الوضع، أصبح ثلث الشباب في البلاد التي لا يتعدى تعدادها 4 ملايين نسمة عاطلاً من العمل، فيما الحكومة لا تزال ترفض الاعتراف باستفحال الظاهرة ووصول نسبها إلى مستويات قياسية.
ويثير الفرق الشاسع بين الأرقام الرسمية لنسبة البطالة والأرقام الصادرة عن منظمة العمل الدولية التي تؤكدها دراسات الخبراء والمنظمات المحلية، جدلاً واسعاً في الشارع الموريتاني الذي يتهم الحكومة بإخفاء الأرقام الحقيقية بسبب عجزها عن إيجاد حلول جذرية لخفض نسبة البطالة.
وتشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أن نسبة البطالة في موريتانيا بلغت 30%، وهي واحدة من أعلى النسب على المستوى العالمي، فيما تشير الأرقام الرسمية إلى انخفاض النسبة من 31% عام 2008 إلى 10.3% في نهاية عام 2019.
ويفسر كريم الدين محمد، منسق حراك "كفانا بطالة"، أسباب الاختلاف الحاصل في أرقام المنظمات الدولية والأرقام الحكومية بتباين المعايير التي ينطلق منها أي مسح. فالدراسات الرسمية تعتبر أن من عمل ساعة أو ساعتين في الأسبوع غير عاطل من العمل، كما تعتبر أن الشخص الذي لم يراجع بوابة التشغيل ولم يزر المراكز والوكالات الرسمية المهتمة بالوساطة في سوق العمل خلال أسبوع أو أسبوعين هو خارج تصنيف العاطلين من العمل.
ويؤكد أن نسبة البطالة أكبر بكثير مما هو معلن من طرف الحكومة، موضحاً أن أغلب طالبي العمل يصابون بالإحباط نتيجة لتفشي الواسطة وصعوبة إيجاد عمل بوسائل البحث التقليدية، وهو ما يجعلهم ينقطعون لفترات عن البحث عن العمل، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على تعداد العاطلين وبالتإلي على النسب التي لا تعبر عن الحجم الحقيقي للمشكلة.
ويطالب منسق حراك "كفانا بطالة" الحكومة الموريتانية بالعمل على تطوير القطاع الخاص وكذلك تشجيع القروض الصغيرة والسعي لقيام القطاع المصرفي بدوره في خلق التنمية، وتحفيز الاستثمار وتوجيهه نحو القطاعات الأكثر قدرة على استقطاب العاطلين، بالإضافة إلى محاربة الرشوة والفساد والعمل على مراجعة المناهج والسياسات التعليمية، وهي الإجراءات التي من شأنها الحد من مشكلة البطالة بشكل كبير.
ويقول في حديث لـ"العربي الجديد"، إن غياب الرؤية الحكومية الفعالة من ضمن أسباب أخرى، شكل عقبة في مواجهة البطالة خلال السنوات الأخيرة، مشيراً إلى أن السياسات الحكومية بشكل عام عجزت عن وضع حد لتفاقم الظاهرة، كما أنها افتقدت للتقييم من حيث النتائج والفاعلية، ما أدى لعدم نجاح جميع السياسات والبرامج الحكومية التي أنفقت عليها أموال طائلة خلال العقود الأخيرة.
ويعتبر كريم الدين أن فوضوية القطاع الخاص وضعف الاستثمار الأجنبي المباشر وكذلك غياب توجيه الاستثمارات نحو القطاعات القادرة على استيعاب أعداد كبيرة من العمال ساهمت هي الأخرى في استفحال مشكلة البطالة.
رغم قلة عدد السكان في البلاد وتوفر الثروات الطبيعية والمؤهلات الاقتصادية، الا أن فرص الاستثمار لم تساعد على استيعاب العاطلين من العمل، بسبب القوانين التي لم تفرض على المستثمرين توظيف إليد العاملة المحلية، فكانت النتيجة أن العمالة الأجنبية استفادت من فرص التوظيف، خاصة في قطاعات الصيد والزراعة والخدمات، وتقلصت فرص التوظيف أمام الشباب الموريتاني.
غير أن الكثير من الخبراء يرون أن العاطلين من العمل غير مؤهلين للعمل، خاصة في القطاع الخاص، بسبب عزوفهم عن التكوين وعدم امتلاكهم الخبرة المهنية واتساع الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، وهو ما ترتب عليه ارتفاع في نسب البطالة سنة بعد أخرى.
ويطالبون بتضافر الجهود ووضع استراتيجية قابلة للتطبيق من أجل التخلص من هذه المشكلة، ووقف هدر إمكانات وقدرات الشباب من خلال فتح تخصصات جديدة وعصرية يتطلبها سوق العمل وتلبي حاجة القطاعين العام الخاص، وإنشاء معاهد ومراكز تكوين وتأهيل للعاطلين.
وفي هذا الصدد، يقول الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم الغرابي إنه "من الضروري المواءمة بين مخرجات التعليم الجامعي وسوق العمل، فالفجوة كبيرة بين الطرفين، ما أدى إلى تضاعف أعداد العاطلين من العمل... وإذا بقي الوضع على حاله فالجامعات ستصبح مؤسسات لتخريج العاطلين وموردا لا ينضب للبطالة".
ويشير إلى أن أرباب العمل لا يحبذون توظيف خريجي الجامعات بسبب ضعف تكوينهم وافتقارهم للخبرة المهنية والمهارات الشخصية، ومن بينها اللغات، ويفضلون البحث عن عاطلين سبق أن تم توظيفهم.
ويرى أن غياب السياسات الفعالة من أهم الأسباب التي فاقمت مشكلة البطالة خلال العقود الأخيرة، ويقول "تتعدد أسباب انتشار وتفاقم ظاهرة البطالة في موريتانيا، ففي حين تعود أصول المشكلة إلى بداية علاقة موريتانيا مع البنك الدولي في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث فرض على الحكومة التوقف عن توظيف الخريجين وضرورة أن تكون كتلة الأجور التي تصرفها الحكومة لا تتجاوز 50% من العائدات الضريبية التي تجنيها من السكان، إلا أن المشكلة تفاقمت مع النمو السريع للقطاع غير المصنف، حيث يشكل 90% من الاقتصاد الموريتاني، بحسب تقارير المكتب الوطني للإحصاء".
ويضيف "يعد القطاع غير المصنف أكبر مشغل للعمالة في موريتانيا ويتسم بالفوضوية وعدم الالتزام بقوانين الشغل المحلية والدولية، ويمكن للعامل أن يصبح عاملا ويمسي عاطلا من العمل، حيث لا توجد عقود عمل ولا أي التزامات ثابتة من رب العمل تجاه العاملين".
أعلنت وزارة التشغيل أخيراً عن تبني استراتيجية وطنية جديدة للتشغيل، مؤكدة أن قضايا التشغيل والشباب تشكل أولوية ضمن برنامج الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني.
وشكلت منسقية جديدة تسند إليها كافة البرامج الحكومية الموجهة للتشغيل بدل توزيعها بين القطاعات الوزارية المختلفة، كما أعلنت الوزارة مطلع العام الجديد عن برنامج "مشروعي مستقبلي" لتمويل 500 مشروع مدر للدخل بالإضافة لتوقيع اتفاقية مع اتحاد أرباب العمل الموريتانيين لاكتتاب 6 آلاف عامل.
ورغم الاهتمام الحكومي الحالي بمشكلة البطالة، إلا أن الإجراءات المتخذة حتى الآن لا تلبي طموحات العاطلين، حيث إنها لم تنجح في إسكات أصوات الشباب الذين خرجوا في مظاهرات ووقفات عدة للمطالبة بتوفير فرص عمل.
ففي الأسابيع الأخيرة الماضية شهدت العاصمة والمدن الرئيسية وقفات عدة منظمة من طرف رابطة الدكاترة العلميين العاطلين من العمل وحراك "كفانا بطالة" وغيرها من تجمعات حملة الشهادات العاطلين من العمل.