البصرة ونظرية المؤامرة

10 سبتمبر 2018

مشهد من البصرة في أثناء الحرب العالمية الأولى 1914(Getty)

+ الخط -
عادة في الشرق، حين لا يناسبنا أمر ما أو يلائمنا، ننسبه سريعاً إلى نظريات المؤامرة، خشيةً من تحوّل هذا الأمر إلى ثابتة أو حقيقة، يمكن أن تؤثر علينا، وعلى ما نفعله. في البصرة العراقية، هناك حقيقة ثابتة أن مجموعة من العراقيين تظاهروا ضد إيران و"الحشد الشعبي"، وأحرقوا مقرّات حزبية ومكاتب سياسية. ستتكرّر هذه الثابتة إن لم تُعالج المشكلة التي تظاهر بسببها المحتجون. بعضهم غير مقتنع بأن هناك جمهوراً واسعاً، أقلويا كان أو أكثريا، يرفض سياسات محدّدة. العراق والبصرة ليسا خارج الزمن والمسار. هناك من يرفض حقاً أي تدخّل أجنبي أو إقليمي في أرضه، لكنه أضعف من المواجهة بالسلاح، أو التزخيم المستمر، لوجود القوى الإقليمية وحلفائها القادرين على قمعه. وهناك من يعتقد أنه بمجرّد انتمائه، بسبب العقيدة والدين إلى قوة إقليمية، أن الجميع سيفعل مثله، في سياق شمولي "حتمي" بالنسبة له. وهذه خطيئة تردّدت مراتٍ كثيرة عبر التاريخ.
نظرية المؤامرة بنت النظرة الشمولية، لا تؤمن بأن هناك عقولا متنوّعة، بل تعتقد أن هناك حتمية محدّدة وعقلاً واحداً، مبنياً على الطائفية والعقيدة، ويجب أن تعمّ في كل أرجاء الكوكب. الشمولية تصطدم، مع نظرة اندهاش، بانتفاضات متكرّرة من رافضيها، لا تلبث أن تتّخذ مساراً أكثر جدّية مع مرور السنين والعقود، لتصل إلى الصيغة المناسبة لتطوّر عمل المجتمعات. الشمولية جامدة أيضاً، لا تتحرّك إلا بطريقة عملانية بين أجنحتها، لا بطريقةٍ تطويرية. المكرّس لديها هو أن تفسير الدين والعقيدة لا يتغيّران. وهو ما أدى إلى سقوط إمبراطورياتٍ دينيةٍ وقوميةٍ في القرون الماضية. لا يمكنك حصر الناس في فكرةٍ واحدة، خصوصاً إذا كانت إيديولوجية ودينية، لأنها ستنتفض عاجلاً أم آجلاً. الناس، وعلى مرّ التاريخ، تبحث عما يشبهها، سواء في القوانين المنبثقة من السلوكيات الإنسانية، أو بفعل الاختلاط بين الثقافات والأديان والقوميات والأعراق المختلفة، التي تخرج قوانين مناسبة لها، وغير متصادمة.
مشكلتنا في الشرق أن لنظرية المؤامرة أنصارها، خصوصاً أنه يتم التلويح بها لحظة حدوث أمرٍ ما مهيب. لا يمكن أن تضع ما حصل في البصرة في سياق نظرية المؤامرة، واعتبارها حصيلة "عمل أجهزة خارجية"، وإلا فإن الفعل الذي أرسيتَه أنت، بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، يندرج في السياق عينه، لناحية العمل في الداخل العراقي، وبناء نواةٍ صلبةٍ في إطار توسّع إقليمي شامل.
علينا في البداية تقبّل أن هناك من لا يُشبهنا، ولو "انتمى" إلينا دينياً أو قومياً أو عرقياً. الإنسان كائن متنوّع، وبعضنا شخصياتٌ مركّبة وبعضنا شخصياتٌ جامدة وبعضنا شخصياتٌ لا تهدأ. الاعتقاد بأن "الجميع يشبه الجميع" هو تماماً المفهوم الذي حاولت وتحاول أنظمة ديكتاتورية ترسيخه عبر التاريخ. نعم هناك مساواة إنسانية وأخلاقية بين البشر، يجب أن تسود في نهاية المطاف. لكن، لا يُمكن إلزام أحد باعتناق فكرةٍ لأنك تعتنقها أنت، لا باسم الدين، ولا باسم القومية، ولا باسم العرق، بل عليك أنت، والمُختلف عنك، السعي إلى وضع قوانين وأنظمة مشتركة، يمكنكما من خلالها العمل الجماعي، في إطار خدمة المجتمع والتطوّر الإنساني.
وهو ما يقودنا إلى بديهيات الشرق، لا يمكنك اعتبار ما حصل في بلدان عربية "ثورةً" وفي بلدان أخرى "تدخّلا أجنبيا". إما جميعها شهدت وتشهد ثورات أو أنها جميعها أسيرةٌ لتدخّل أجنبي. لا حل ثالثاً بينهما. في البصرة انتفاضة، ربما ستُقمع حالياً، لكنها ليست نهاية كل شيء. هناك جوّ عام لا يمكن لأحدٍ نكرانه، وهناك واقع أساسي يتبدّل. لا شيء ثابتاً في السياسة، وفقاً للتبدّل الإنساني المستمرّ. الإيديولوجيا مريحة لمن يريد الانتظار فقط، واعتبار نفسه "قد وصل"، لكن التطور في شتى المجالات كقطارٍ لا يتوقف. ولو توقفت البشرية يوماً باسم الإيديولوجيا لكانت انقرضت في عامها الأول.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".