31 أكتوبر 2024
البحر المتوسط.. على العالم ألا ينام مطمئناً
تتسارع وتيرة تطورات الأحداث في منطقة البحر المتوسط، ويُنذر ذلك بمخاطر أكبر من التي يتم تقديرها أو احتسابها، انطلاقاً من الاعتقاد بأن الأمور تحت الضبط، ولا يمكن أن تتطوّر إلى صراعات فعلية، ولن تتجاوز حدود التصريحات اللفظية بين أطرافٍ هي في الأصل تمرّ بحالة خصام. وبالتالي، فإن مناوشات البحر المتوسط هي جزء من حالة الخصام، وليست مشكلة منفصلة بذاتها.
هذا التقدير، السائد، إما أنه تعبير عن ضعف حساسية تجاه المخاطر التي ترتسم فوق أمواج المتوسط، وهي وضعيةٌ لا تخرج عن حالة سوء التقدير وعدم القدرة على التنبؤ بالأحداث الخطرة التي شهدها العقد الذي نعيش آخر أيامه، حيث عجزت دوائر صنع القرار ومراكز التفكير عن التنبؤ بمعظم أحداثه، إن لم يكن جميعها، وبعد اندلاعها لم تستطع التعامل معها بما يتناسب وحجم تأثيراتها وتداعياتها، الأمر الذي أنتج تشوّهاتٍ جيواستراتيجية خطيرة على مستوى العالم، وظهور لاعبين من الدرجتين الثانية والثالثة، تحكّموا في مسارات التطورات واتجاهاتها.
أو أنه سياسة مقصودة، الهدف منها تغيير أوضاع معينة، عبر ترك الأزمات تطوّر مساراتها، وتنضج مخاطرها، ومن ثم اتخاذ موقف تجاهها. وفي هذه الحالة، فإن مخرجات هذا الموقف
تهدف إلى إجراء تغييرات في الترتيبات التي جرى التعامل بها في الفترة السابقة، وإعادة صياغتها، بحيث تنطوي على مصالح للأطراف الجديدة في اللعبة، أو توريط اللاعبين المباشرين في صراعاتٍ بينيةٍ، بهدف استنزافهم وإلهائهم في قضايا معينة، وإبعادهم تالياً عن الاهتمام بمسائل أخرى مهمّة للاعبين الكبار.
ثمّة متغيّران جديدان يجب أخذهما في الاعتبار لدى مناقشة تطورات الأزمة في البحر المتوسط، الأول صعود أدوار تركيا وروسيا، البلدين اللذين يملكان مصالح حيوية في البحر المتوسط، والمؤثرين راهناً في السياسات الإقليمية والدولية. وهذان متغيّران مستجدّان تماماً عن بيئة البحر المتوسط والترتيبات التي أجرتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية في القرن الأخير بشأن هذا الحيز المائي. ومع أن تركيا لم تكن بعيدةً عن تلك الترتيبات، لكنها كانت جزءا من ترتيباتٍ غربية، وبالأصح، جزءا من سياسة حلف شمال الأطلسي (الناتو) للبحر الأبيض المتوسط، والذي اقتصرت ترتيباته على الجانب الأمني بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى حماية حرية التجارة. أما تركيا الراهنة فهي تخوض غمار المنافسات والمنازعات في المتوسط، انطلاقا من اهتمامات مختلفة إلى حد كبير.
المتغير الثاني مرتبط بالثروات التي ظهرت في البحر المتوسط في العقد الأخير، وبالتحديد الغاز، حيث تفيد تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية بأن حوض شرق المتوسط يحتوي على غاز طبيعي بقيمة 700 مليار دولار، على الرغم من أن دراسات اقتصادية بدأت تشير
إلى انخفاض الجدوى الاقتصادية لغاز المتوسط، بالنظر إلى تكاليف استخراجه المرتفعة، كونه يقع على أعماق، بين 3 و5 آلاف متر تحت سطح البحر، ما يجعل قدرته على منافسة الغاز الروسي أو القطري، ذي التكاليف المنخفضة، صعبة، إن لم تكن مستحيلة، وبالتالي فإن أغلب مشاريع التنقيب عن الغاز في المتوسط ستتوقف قبل وصولها إلى مرحلة الإنتاج، بسبب هذه الإشكالية، والدليل أن إسرائيل لم تجد سوقاً لمنتجها من الغاز سوى مصر، المكتفية أصلاً من هذه المادة، وتبحث بدورها عن أسواق لتصريف منتجها!
لا يمكن فهم الاشتباك الحاصل في المتوسط من دون ربطه بالمشاريع الجيوسياسية. ويبدو أن ليبيا ستكون العقدة الجيوسياسية التي تتصادم عندها المشاريع وتتراكب على أزمتها الصراعات القادمة والتي بدأت نذرها في الظهور. فالتحرّك التركي، باتجاه عقد اتفاقية مع حكومة الوفاق الليبية، كان الهدف منه مواجهة مشاريع الحصار التي تحاول تطبيقها ضدها كل من اليونان وقبرص "اليونانية" ومصر وإسرائيل، حيث تعتقد تركيا أن لهذا المشروع أبعاداً غير اقتصادية، بل محاولة لتطويقها وزعزعة أمنها، خصوصا أن هذه التحرّكات جاءت على خلفيةٍ سياسيةٍ لم تخفِ نفسَها، نتيجة بروز نزاعات سياسية حادّة بين تركيا وأطراف الحلف المقابل.
على الجانب الروسي، تحاول موسكو تقوية أوراقها في المتوسط، من خلال تأمين وجود فاعل
ومؤثر في ليبيا، أولاً لرفع رصيد قوتها الدولية، بعد سيطرتها على سورية، وثانياً لوضع أوروبا داخل كمّاشتها عبر حصارها من الشرق والجنوب، وثالثاً لإضعاف النفوذ الأميركي في المتوسط عموماً، بعد تقاربها مع نظام عبد الفتاح السيسي في مصر. وليس مستغربا أن يتحوّل الأخير إلى لعب الدور الذي قامت به إيران في سورية، من خلال تزويد روسيا بالقوات البرّية، بما يقلل أكلاف تدخّلها ويغريها بالانخراط في الصراع الليبي.
وفي الحالتين، التركية والروسية، تبدو التداعيات المحتملة بمثابة انفجاراتٍ خطرة على طريق ثوران صراع دولي، سيكون من الصعب مداراته، ذلك أن اللعبة تدور على خطوط صراع ملتهبة بالأصل، كما أن المتوسط يشكل عقدة مصالح متشابكة لأوروبا وأميركا. وثمّة فرق بين أن تترك أوروبا وأميركا الصراع يتعفّن في ليبيا والسماح لروسيا بالتموضع في هذه البقعة، لأن وجودها سيتحوّل إلى مفتاح للعبث بمصالح تلك الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، تقلّل الإجراءات التركية اليونانية المتضادة خيارات الطرفين في البحث عن مخارج آمنة للأزمة بينهما، فاتفاق تركيا - ليبيا يضع اليونان في مأزقٍ جغرافي معقد، ويحاصرها في جزرها، كما أن تحرّكات اليونان باتجاه مصر وإسرائيل تُطبق على صدر تركيا، وتحوّلها إلى دولة هامشية بمياه إقليمية ضيقة.
ما يقلق في تطوّرات النزاع في البحر المتوسط وعليه عدم وجود بوادر لتراجع الأطراف عن مواقفها وترتيباتها، والأكثر عدم وجود مبادرةٍ من اللاعبين الآخرين لاحتواء النزاع الوشيك، بل هناك سياسة مقصودة لتسريع دحرجة الأمور على كل جبهات المتوسط، وهو وضعٌ يجب أن يقلق المهتمين بأمن المنطقة والسلام العالمي برمّته.
أو أنه سياسة مقصودة، الهدف منها تغيير أوضاع معينة، عبر ترك الأزمات تطوّر مساراتها، وتنضج مخاطرها، ومن ثم اتخاذ موقف تجاهها. وفي هذه الحالة، فإن مخرجات هذا الموقف
ثمّة متغيّران جديدان يجب أخذهما في الاعتبار لدى مناقشة تطورات الأزمة في البحر المتوسط، الأول صعود أدوار تركيا وروسيا، البلدين اللذين يملكان مصالح حيوية في البحر المتوسط، والمؤثرين راهناً في السياسات الإقليمية والدولية. وهذان متغيّران مستجدّان تماماً عن بيئة البحر المتوسط والترتيبات التي أجرتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية في القرن الأخير بشأن هذا الحيز المائي. ومع أن تركيا لم تكن بعيدةً عن تلك الترتيبات، لكنها كانت جزءا من ترتيباتٍ غربية، وبالأصح، جزءا من سياسة حلف شمال الأطلسي (الناتو) للبحر الأبيض المتوسط، والذي اقتصرت ترتيباته على الجانب الأمني بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى حماية حرية التجارة. أما تركيا الراهنة فهي تخوض غمار المنافسات والمنازعات في المتوسط، انطلاقا من اهتمامات مختلفة إلى حد كبير.
المتغير الثاني مرتبط بالثروات التي ظهرت في البحر المتوسط في العقد الأخير، وبالتحديد الغاز، حيث تفيد تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية بأن حوض شرق المتوسط يحتوي على غاز طبيعي بقيمة 700 مليار دولار، على الرغم من أن دراسات اقتصادية بدأت تشير
لا يمكن فهم الاشتباك الحاصل في المتوسط من دون ربطه بالمشاريع الجيوسياسية. ويبدو أن ليبيا ستكون العقدة الجيوسياسية التي تتصادم عندها المشاريع وتتراكب على أزمتها الصراعات القادمة والتي بدأت نذرها في الظهور. فالتحرّك التركي، باتجاه عقد اتفاقية مع حكومة الوفاق الليبية، كان الهدف منه مواجهة مشاريع الحصار التي تحاول تطبيقها ضدها كل من اليونان وقبرص "اليونانية" ومصر وإسرائيل، حيث تعتقد تركيا أن لهذا المشروع أبعاداً غير اقتصادية، بل محاولة لتطويقها وزعزعة أمنها، خصوصا أن هذه التحرّكات جاءت على خلفيةٍ سياسيةٍ لم تخفِ نفسَها، نتيجة بروز نزاعات سياسية حادّة بين تركيا وأطراف الحلف المقابل.
على الجانب الروسي، تحاول موسكو تقوية أوراقها في المتوسط، من خلال تأمين وجود فاعل
وفي الحالتين، التركية والروسية، تبدو التداعيات المحتملة بمثابة انفجاراتٍ خطرة على طريق ثوران صراع دولي، سيكون من الصعب مداراته، ذلك أن اللعبة تدور على خطوط صراع ملتهبة بالأصل، كما أن المتوسط يشكل عقدة مصالح متشابكة لأوروبا وأميركا. وثمّة فرق بين أن تترك أوروبا وأميركا الصراع يتعفّن في ليبيا والسماح لروسيا بالتموضع في هذه البقعة، لأن وجودها سيتحوّل إلى مفتاح للعبث بمصالح تلك الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، تقلّل الإجراءات التركية اليونانية المتضادة خيارات الطرفين في البحث عن مخارج آمنة للأزمة بينهما، فاتفاق تركيا - ليبيا يضع اليونان في مأزقٍ جغرافي معقد، ويحاصرها في جزرها، كما أن تحرّكات اليونان باتجاه مصر وإسرائيل تُطبق على صدر تركيا، وتحوّلها إلى دولة هامشية بمياه إقليمية ضيقة.
ما يقلق في تطوّرات النزاع في البحر المتوسط وعليه عدم وجود بوادر لتراجع الأطراف عن مواقفها وترتيباتها، والأكثر عدم وجود مبادرةٍ من اللاعبين الآخرين لاحتواء النزاع الوشيك، بل هناك سياسة مقصودة لتسريع دحرجة الأمور على كل جبهات المتوسط، وهو وضعٌ يجب أن يقلق المهتمين بأمن المنطقة والسلام العالمي برمّته.