البحث عن الحقيقة

23 يونيو 2018
+ الخط -
في أثناء حديث بين صديقين على "فيسبوك"، في معرض تحليلهما مباراة المكسيك وألمانيا في نهائيات كأس العالم، الأحد الماضي، وفازت بها المكسيك (0-1)، قال أحدهما للآخر: "لماذا تظنّ المكسيك منتخبا ضعيفاً؟ لقد أحرز لقب كوبا أميركا (كأس أمم أميركا الجنوبية)". وردّ صديقه في الفحوى ذاتها، بينما الحقيقة أن المنتخب المكسيكي لم يحرز هذا اللقب قط، بل شارك في البطولة فقط مرات عدة. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن المعلومة ناقصة وغير صحيحة، والثنائي تحدثا وكأنها حقيقة موثقة. قد يكون أمراً تافهاً إن تعاملنا معه في الإطار الرياضي فحسب، غير أن الأمر لا يبدو صحياً على الإطلاق، على اعتبار أن النقص في معلومةٍ "تافهة" يجرّ نقصاً في معلومات أخرى، ما يفسح المجال أمام تنامي الأخبار الخاطئة، والتي تُبنى عليها فرضيات وحسابات خاطئة أيضاً، فتصبح المعلومة الناقصة أساساً حقيقياً، وهي ليست كذلك.
عليه، يستدعي ذلك لحظة للتأمل: ماذا لو كانت حقائق عديدة غير صحيحة وخاطئة، لكنها صُنّفت حقائق؟ ماذا لو أن ذلك انطبق على الملفات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والدينية، بما يؤثر على مجتمع كامل لتُضحي إمكانية التصحيح بمثابة ترفٍ لا يمكن بلوغه إلا بعد جدالاتٍ طويلةٍ معزّزة بقرائن وحقائق؟ لا غلو في ذلك، فعالمنا في الوقت الحالي بات أقرب إلى تبنّي الحقائق الخاطئة أكثر من أي وقتٍ مضى، وكأننا جميعاً نسخ متكرّرة من وزير الدعاية في الحكم الألماني النازي جوزيف غوبلز. بالتالي، استمرار الوضع على ما هو عليه يعني أن البشرية مقبلة على ما هو أسوأ من مجرد رأي ورأي آخر، بل مقبلة على رمي حقيقة خاطئة على أساس أنها حتمية، ما ينعكس بالسلب على معطيات كثيرة مرتبطة بالحقائق المجرّدة.
لا أظنكم تنسون قضية اللواء المصري، إبراهيم عبد العاطي، الذي أصرّ على اختراعه جهازاً لمعالجة مرض الإيدز عبر "صباع الكفتة"، وتعامل معه كثيرون على أن اختراعه "حقيقة مؤكدة". وهو على أي حال أثبت خطأه لاحقاً، لكن بعد سنوات من المتابعة غير المجدية. لم يعد مسموحاً لنا في وقتٍ باتت فيه المعلومة، مع قليل من البحث الجدّي، لا السريع، أن تبقى الحقائق غير صحيحة وخاطئة. يمكن لأيٍّ كان اختراع خبر ما، والبناء عليه. ومع قليل من الضجيج، يصبح الخبر حقيقة فعلية، وتدخل البشرية في حالةٍ من التوهان غير السليم. ويؤدي تناسل الحقائق الخاطئة حكماً إلى بروز أجيال غير مؤسسة على الحقائق المجرّدة. حسناً، ماذا لو أنه في السابق كانت حقائق كثيرة خاطئة، لكن قلّة لم يؤثروا على مسار البشرية، أدركوا خطأها، ولم يتمكّنوا من معالجتها، لنصبح نحن مجرّد أتباع لحقائق خاطئة؟
يمكن لكثيرين البحث عن مطلق حقيقة، في حال أرادوا ذلك. دائماً ما نحتاج سؤال أنفسنا: من أين تنبع تلك الحقيقة الخاطئة؟ لا بل الذهاب إليها والتدقيق فيها، وقلبها رأساً على عقب. ليست العملية فيزيائية ولا كيميائية بلغة العلوم، بل عملية بحث حقيقية. لا يمكن لنا اعتناق كل خبر أو كل مبدأ فقط لأن بعضهم طرحها، وتعامل معها على أنها مسلّمة حقيقية. هناك كثير من الفوضى في عالمنا بسبب ذلك. قد يقول بعضهم إن الإعلام، وهو السلاح الأمضى، مسؤولٌ بدرجة كبيرة عن تسويق أي معلومة خاطئة، وفي الوقت عينه، لا يمكننا التعامل مع الإعلام على أساس أنه حقيقة ثابتة، بل مجرّد ناقل صورة أو خبر. هنا يأتي دورنا، باعتبارنا أشخاصاً لديهم أدمغة، يفعّلونها من أجل كسر أي أمر خاطئ. باتت الأفكار الخاطئة، مثل الوجبات السريعة، مُضرّة بالعقل البشري، وهو ما نحتاج حكماً إلى تصحيحه. ليس الأمر متعلقاً بالمكسيك وألمانيا، بل بمسارٍ بشريٍ وإنساني شامل.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".