فجرت زيارة البابا تواضروس الثاني للقدس المحتلة، حالة من الصخب، والجدل الذي يبدو أنه لن يتوقف، فالزيارة جاءت لتكسر قرارا اتخذه المجمع المقدس عام 1980 بعدم التصريح لرعايا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بالسفر إلى القدس، في موسم الزيارة، وذلك لحين استعادة دير السلطان (أحد أوقاف الكنيسة) بالقدس، ويسري هذا القرار ويتجدد تلقائيا طالما أن الدير لم تتم استعادته.
وأزمة هذا الدير تعود لما بعد يونيو/ حزيران 67 حيث استولت قوات الاحتلال الإسرائيلية عليه وطردت الرهبان المصريين وسلمته للرهبان الارثوذكس الأحباش نكاية في الدولة المصرية. وبناء عليه قرر البابا الراحل كيرلس السادس، حظر سفر الأقباط إلى القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد الاستيلاء على الدير، بخلاف أن الظروف الموضوعية الحربية تحول دون ذلك.
وخلال الثلاثين عاما الماضية كان البابا شنوده الثالث يطبق هذا القرار بصرامة فائقة، حيث يتم حرمان كل من يذهب الى القدس، ولا يتم التساهل في هذا الأمر إلا بعد نشر إعلان في إحدى الصحف يقدم فيه العائد من الزيارة اعتذارا رسميا للكنيسة.
والدارس لهذا القرار كقرار مجمعي صدر برئاسة البابا شنوده، عليه أن يفهم بعض الحقائق حول شخصيته وسياق هذا القرار، فجزءٌ من حياة البابا شنوده كان عسكريا؛ إذ كان معايِشًا لمناخ حرب 48، كما أن جزءًا مهمًّا من تكوين الكنيسة في الستينيات جاء متأثرًا بالمناخ القومي الناصري؛ فكان موقف الكنيسة من المشروع الصهيوني داعما لموقف الدولة، ولعل من أشهر تلك المواقف ما جاء في محاضر للأنبا شنوده (اسقف التعليم وقتها) في نقابة الصحفيين (في 26 من يونيو/ حزيران 1969) والتي كانت بعنوان "إسرائيل في رأي المسيحية"، وقال في ختامها: "إذا كان الله يريد أن يرسل عبد الناصر سيف تأديب لهذا الشعب؛ فإن هذا سيكون خيارًا روحيًّا لهم".
وقد جاء هذا الموقف في سياق تحرك كنسي أوسع من خلال رجال الكنيسة وبعض المثقفين الاقباط، حيث كتب الأنبا اغريغريوس أسقف البحث العلمي عدة كتب مهمة منها "إسرائيل في الميزان من منظور مسيحي"، "والكنيسة ومزاعم إسرائيل"، "وما وراء خط النار عن إلهامات المعركة" لأحد بيوت التكريس، وكتاب "الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار" لوليم سليمان قلادة والعديد من المواقف والرؤى، ولكن في هذا الإطار يجب التفرقة بين الموقف من إسرائيل، والموقف من التطبيع، فالموقف من إسرائيل تمثله خلاصات دينية ظلت تمثل نوعا من الموقف الأخلاقي والروحي الكتابي، من إسرائيل التاريخية تمت بلورته أكثر في سياق معركة كبرى، وتتماشى مع ما يسود من أدبيات في تلك الفترة حول العدوان والاحتلال وقد خرجت من أعطاف ذلك الموقف مقولات عديدة منها أن "الشعب الإسرائيلي المحتل لفلسطين ليس هو شعب الله المختار" وتم ربط ذلك الرأي اللاهوتي بالمشروع الناصري مع ميل نحو اليسار، وتم دمج موقف الكنيسة التقليدي القلق من الكنائس الغربية بالاستعمار، والتعبئة في اتجاه مجابهة عدو مشترك يهدد الدولة والكنيسة.
ولكن من جهة الموقف من التطبيع، والذي يفهم بحسبانه موقفا صعد في نهاية السبعينيات ضد العلاقات الطبيعية مع إسرائيل، حيث طُلب من قطاعات عديدة من الدولة المصرية والمجتمع المدني، بعد اتفاقية السلام التي أبرمها السادات أن تتعامل بإيجابية مع دوافع تلك الاتفاقية، وهو ما تصاعد رفضه في السبعينيات وما بعد ذلك فيما يعرف بمقاومة التطبيع.
والحقيقة الغائبة أنه في السبعينيات ومع التغيرات السياسية الجديدة حاولت الكنيسة أن تغير الموقف من إسرائيل تدريجيا تماشيا مع الفكر الساداتي المتجه نحو عقد سلام معها، باعتبار أن الكنيسة تقف مع السلام وحقن الدماء ولا يمكنها أن تفعل غير ذلك، لذا أيد البابا شنوده السلام مع إسرائيل ولخص موقفه في مقولة شهيرة للسادات: "ثِق أن الحق الذي يؤيدك أقوى من الباطل الذي يعارضك"، وهي مقولة اعتبرها "أبو سيف يوسف" في كتابه "الأقباط والقومية العربية" أنها تأييد غير مباشر للسادات في عملية السلام.
لكن السؤال لماذا غير موقف البابا رؤيته من الحق المؤيد للسادات، وأعلن تمسكه برفض التطبيع؟ الحقيقة أن التطبيع تبلور في سياق أزمة كبرى حدثت بين رأس الكنيسة، ورأس الدولة، حيث اتهم السادات البابا شنوده بالبحث عن زعامة سياسية، وتكرر ذلك في عدة خطابات رسمية، وذلك على خلفية صدامات طائفية كبيرة حدثت في القاهرة وبعض المحافظات، في سياق إقليمي ساخن متجسدا في الحرب الأهلية اللبنانية وطابعها الطائفي الذي ألقى بظلال كثيفة حول الأزمة في مصر، وكانت الدولة ستشرع في إجراءات قضائية تتهم البابا بالتحريض على العنف، وتم التراجع عن ذلك، لصالح قرار بسحب اعتراف الدولة بتنصيب البابا وتشكيل لجنة لإدارة الكنيسة وإعلان ذلك في خطاب عام من قبل السادات.
وكان من الذكاء السياسي للبابا شنوده أن يرد وأن يعلن من خلال المجمع المقدس عام 80 تحريم زيارة الأقباط للقدس وهي في ظل الاحتلال، بدلا من الامتناع عن الزيارة احتجاجًا على الاستيلاء على أحد الأوقاف القبطية في القدس وهو "دير السلطان"، بل وتوارت قضية دير السلطان تماما، وبقيت فكرة التطبيع هي الأكثر حضورًا؛ وتلاقى موقفه هذا مع موقف الجماعة الوطنية الرافض للتطبيع، وهو ما أكسب البابا شنودة شعبية كبيرة، وصارت قضية التطبيع هي أهم قضية يطل بها على الصحافة، مما قربه كثيرا من النخب المصرية الوطنية والنقابية والحزبية التي كانت تمثل زخما كبيرا ضد التطبيع، وتحصن البابا بتلك النخب، التي فضت التهميش الذي فرضته الدولة المصرية على البابا.
والكنيسة تاريخيا كانت تحاول أن تربط بين ديمومتها والدولة، وفي هذا الموقف تم ربط وجودها بالجماعة الوطنية المعارضة للدولة وهو موقف نادر الحدوث وهذا قواها كثيرا.
أما سفر البابا تواضروس الثاني إلى القدس لـ"الصلاة" في جنازة الأنبا "أبراهام" مطران القدس والشرق الأدنى (دول الخليج)، حيث خرجت البيانات الكنسية، لتتحدث عن أن المطران المتوفى يمثل الرجل الثاني في الكنيسة، بعد الكرسي البابوي، وهي مبالغة شديدة توحي بحتمية الزيارة والصلاة، لكن وفقا لتقاليد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فإن بابا الإسكندرية هو رئيس المجمع الكنسي باعتباره الأول بين متساوين، فلا يوجد له نائب بينهم، أو مفضل بالتالي لا يوجد ما يلزم طقسيا الذهاب، وقد تعرض الكرسي المقدسي للفراغ، ولم يحدث أن ذهب البابا، لكن ما الذي تغير؟
تاريخيا ثمة قلق داخل الجماعة المسيحية المصرية من الانتماء العربي والقومي، بعكس الجماعات المسيحية الشامية، والكنيسة القبطية والاقباط يرون أن الانكفاء القطري القومي الضيق، يحول بينها وبين ذوبانها في المحيط العربي أو الإسلامي، وبالتالي هي في مجملها غير متشجعة لهذا النمط من القضايا الجمعية القومية أو الأممية، فضلا عن أن تغييرات داخلية كثيرة مست هذا الجانب، ويسر للكنيسة هذا التحلل التدريجي، فمنذ نهاية عهد البابا شنوده بدت الكنيسة تغض الطرف عن سفر الاقباط للقدس للزيارة، الزيارة فقط إذ ليس في المسيحية حج كما في الإسلام، وبعد 30 يونيو حيث عاد الاقباط مرة أخرى للتترس بالكنيسة بعد أن حررتهم ثورة يناير من إسارها، بدا أن فكرة المواجهة مع العدو الصهيوني أو الاستعمار أو الاشتراكية أو العروبة باتت تمثل أفكارا بالية، وبدا أن النخب الرأسمالية المرتبطة بالغرب هي الأكثر قربا وتأثيرا داخل الكنيسة، بدلا من النخب اليسارية والقومية كما أن الدولة المصرية الآن تمر بحالة سيولة كبيرة، في ثوابتها، وفرضت هذه السيولة على واقع الجماعة الوطنية المصرية، والتي شيدت تاريخيا وفق مطلبية الاستقلال قديما ثم مقاومة التطبيع حديثا، فالدولة المصرية تصوت لصالح إسرائيل الصديقة وتجابه الإسلاميين في الداخل والخارج، وباتت المقاومة الفلسطينية مشروعا حمساويا اخوانيا يجب حصاره، وله الأولوية في المجابهة، حيث تريد السلطة أن تشكل الجماعة الوطنية وفق هذا الهدف.
وقرار كهذا واضح أنه يدور في فلك أكبر يدفع نحو تلك السيولة، وهو ما بدا جليا في الحاح محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية على تلك الزيارة، فضلا عن زيارة الشيخ علي جمعة والحبيب الجفري للقدس، وبالتأكيد السلطات العليا في الدولة شجعت هذه الزيارة، وما كان للبابا أن يذهب لولا ذلك التشجيع.
من الصعب أن تجادل الكنيسة عن نفسها واعتبار أن ذلك التطبيع بكل ملابساته قضية صلاة وليس سياسة مقصودة، والموقف من التطبيع برمته من البداية للنهاية هو عمل سياسي اتخذ في سياق صراع، اللافت أن القرار اتخذ بشكل فردي لا مجمعي، حيث تقتضي اللياقة المؤسسية أن تصدر الكنيسة موقفا من المجمع المقدس ينسخ الموقف القديم، حيث قررت الكنيسة في لحظة قراءة خاطئة، أن تفعل ما هو مضاد للوعي العام الحقيقي، الذي يرى أن الخطر الحقيقي سيظل يطل من اسرائيل، أما خطر الإسلاميين الذي حمل الكنيسة على أن تتوحد مع الدولة ليس خطرا حقيقيا والبناء على ذلك هو وعي زائف، والحقيقة أن الكنيسة باعتبارها أضحت مؤسسة الأقباط العامة، بهذا الموقف قررت أن تنشق عن الوعي الجمعي الراسب في الوجدان وعندما ينشق وعي جماعة ما بالأخطار التي تحيط بالوطن، عن وعي بقية معظم الجماعة المصرية وبصورة تختلف جذريا عن الرؤية العامة فهو ينذر بشرخ كبير.
ولعل البابا تواضروس أسس قراره التطبيعي على ذلك الوعي الجمعي الزائف.. الذي سيتلاشى مع تلاشي مناخ القمع.. وستعود أوزان ذاكرة مصر إلى حجمها الطبيعي وترتيبها التاريخي.. وستنتظم مواثيق الموالاة والعداوة والمصالح وفق هذه الأوزان.
(مصر)