أصابت إسرائيل رفّ عصافير كامل عندما سمحت بإنشاء سلطة وطنية فلسطينية بلا سيادة وبلا جيش وبلا مقومات دولة. أصابت عن قصد أو بالصدفة، ذلك أنه من غير المعلوم تماماً، في أرشيف دولة الاحتلال وفي يوميات مفاوضات أوسلو (1993) السرية والعلنية منها، وملحقات الاتفاق المشؤوم، ما إذا كان حكام تل أبيب في حينها توقعوا أنه فور ولادة سلطة وطنية على فتاتٍ من أراضي فلسطين التاريخية، فسيتحول الصراع الأساسي بالنسبة للمتحدثين باسم الشعب الفلسطيني، من فصائل وأحزاب، إلى سباق على السلطة، لا على التحرير ولا على الاستقلال ولا على تقرير المصير. وبالفعل، لم يخيّب هؤلاء الآمال الخبيثة تلك، فصار "الانقسام الداخلي" في غضون سنوات قليلة ما بعد الاتفاق، المصطلح المهيمن في الإعلام وفي السجال السياسي وفي كل ما يتصل بالقضية الفلسطينية، على حساب مفردات المقاومة والاحتلال والحد من الخسارة وتحصيل الحقوق وتثبيت الناس في أراضيهم ورفض التطبيع مع المجرم. صحيح أن أي حركة تحرر وطنية لم تنجُ عبر التاريخ من الاختلافات في الرؤى والمشاريع والاستراتيجيات بين مكوناتها، وهو شأن أكثر من منطقي، إلا أنه نادراً ما صار الانقسام ذاك متقدماً بأشواط على الهدف المركزي، أي الاستقلال وإنشاء الدولة الوطنية. لكنها السلطة قبل الدولة، وما أدراك ما السلطة؟ هي رواتب ومصالح اقتصادية ونفوذ وبطاقات "شخصيات مهمة جداً" (VIP) وسيارات فاخرة وحراسات ووزارات وفساد وتنفيس للنرجسيات ولجنون العظمة، بينما النضال الحق والمقاومة، هما تعب وعذاب وتضحيات وموت واعتقالات وتعذيب... ونكران للذات، المصطلح النقيض للسلطة ولما يتبعها من "امتيازات".
ليس صحيحاً أن الانقسام الفلسطيني الداخلي حالياً، الذي أسس له رفض فوز حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية في 2006، هو مجرد صراع بين شياطين وملائكة، وبين عملاء ومقاومين، وبين شرفاء وأنذال. العنوان العريض للانقسام بين "فتح" و"حماس"، أي مشروعَي الحل السلمي والمقاومة لتحرير كل فلسطين بكل الوسائل (حتى في الوثيقة السياسية الأخيرة الملتبسة لحركة حماس)، يخفي تحته وعلى يسراه ويمناه مصالح هائلة في النفوذ والامتيازات والحكم، وهي جميعها من نتائج السلطة التي استحالت سلطتين منذ دفع "حماس" إلى التفرد بحكم غزة بعد رفض الاعتراف بفوزها الانتخابي. هكذا، يبدو الانقسام الداخلي، الذي ربما كان ليتحول حرباً أهلية مكتملة الأركان لو كان هناك تواصل جغرافي بين الضفة وغزة، الابن الشرعي لاتفاقات أوسلو ولمخرجاته الرئيسية المتمثلة بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية للحكم الذاتي. ففي حالات مشاريع الاستقلال العالمثالثية التي لم تعرف أوسلو خاصاً بها، اندلعت الحروب الأهلية لكن بعد الاستقلال وإنشاء الدولة لا قبلهما، كحال جنوب السودان مثلاً، بغض النظر عن أنه لا وجود لأي عامل يجمع الحالتين السودانية الجنوبية والفلسطينية، لا في الظروف ولا في المستوى الاجتماعي الثقافي الاقتصادي السياسي، سوى لناحية الرغبة بالاستقلال وتقرير المصير. ولو لم تكن السلطة هي أصل الانقسام والمصلحة الإسرائيلية الكبرى منذ عقدين على الأقل، لماذا إذاً يلوّح اليوم كل من حكام الضفة وغزة بالتخلي عنها ورميها في وجه الاحتلال و"المجتمع الدولي"؟ لربما كان هذا التلويح ــ التهديد أكبر اعتراف من هاتين السلطتين بمقدار الضرر الذي تسببت به السلطة على القضية عموماً.
لكن عندما تصبح السلطة عبئاً على أصحابها، يُفتح باب للأمل بعودة البوصلة، وهو ما تظهر بوادره اليوم. السلطة باتت ثقيلة على حماس مثلما صارت متعبة لحركة فتح، مع أن المعاناة في القطاع أكبر بأشواط من أحوال الضفة. رمي مفاتيح السلطة في وجه العالم من شأنه ربما أن يُحدث الصدمة في صفوف الشعب الفلسطيني وممثليه قبل أي طرف آخر، ولعله يذكرهم بأن ما خسرناه في سنوات مرحلة السلطة، وما نتج عنها من انقسام داخلي، يفوق ما تكبدناه من كوارث على امتداد قرون.
ليس صحيحاً أن الانقسام الفلسطيني الداخلي حالياً، الذي أسس له رفض فوز حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية في 2006، هو مجرد صراع بين شياطين وملائكة، وبين عملاء ومقاومين، وبين شرفاء وأنذال. العنوان العريض للانقسام بين "فتح" و"حماس"، أي مشروعَي الحل السلمي والمقاومة لتحرير كل فلسطين بكل الوسائل (حتى في الوثيقة السياسية الأخيرة الملتبسة لحركة حماس)، يخفي تحته وعلى يسراه ويمناه مصالح هائلة في النفوذ والامتيازات والحكم، وهي جميعها من نتائج السلطة التي استحالت سلطتين منذ دفع "حماس" إلى التفرد بحكم غزة بعد رفض الاعتراف بفوزها الانتخابي. هكذا، يبدو الانقسام الداخلي، الذي ربما كان ليتحول حرباً أهلية مكتملة الأركان لو كان هناك تواصل جغرافي بين الضفة وغزة، الابن الشرعي لاتفاقات أوسلو ولمخرجاته الرئيسية المتمثلة بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية للحكم الذاتي. ففي حالات مشاريع الاستقلال العالمثالثية التي لم تعرف أوسلو خاصاً بها، اندلعت الحروب الأهلية لكن بعد الاستقلال وإنشاء الدولة لا قبلهما، كحال جنوب السودان مثلاً، بغض النظر عن أنه لا وجود لأي عامل يجمع الحالتين السودانية الجنوبية والفلسطينية، لا في الظروف ولا في المستوى الاجتماعي الثقافي الاقتصادي السياسي، سوى لناحية الرغبة بالاستقلال وتقرير المصير. ولو لم تكن السلطة هي أصل الانقسام والمصلحة الإسرائيلية الكبرى منذ عقدين على الأقل، لماذا إذاً يلوّح اليوم كل من حكام الضفة وغزة بالتخلي عنها ورميها في وجه الاحتلال و"المجتمع الدولي"؟ لربما كان هذا التلويح ــ التهديد أكبر اعتراف من هاتين السلطتين بمقدار الضرر الذي تسببت به السلطة على القضية عموماً.
لكن عندما تصبح السلطة عبئاً على أصحابها، يُفتح باب للأمل بعودة البوصلة، وهو ما تظهر بوادره اليوم. السلطة باتت ثقيلة على حماس مثلما صارت متعبة لحركة فتح، مع أن المعاناة في القطاع أكبر بأشواط من أحوال الضفة. رمي مفاتيح السلطة في وجه العالم من شأنه ربما أن يُحدث الصدمة في صفوف الشعب الفلسطيني وممثليه قبل أي طرف آخر، ولعله يذكرهم بأن ما خسرناه في سنوات مرحلة السلطة، وما نتج عنها من انقسام داخلي، يفوق ما تكبدناه من كوارث على امتداد قرون.