08 نوفمبر 2024
الانفجار عربياً نتيجة لا خيار
يجادل كثيرون من خصوم الثورات العربية الموءودة أنها لم تأت لنا إلا بالخراب والدمار وسفك الدماء وتفكيك الأوطان وإضعاف مناعتها الذاتية. وبناء على هذه الخلاصة، والتي توصّل إليها أغلبهم، حتى قبل وأد الثورات وإفشالها في مسعى تحقيق ما دعت إليه، فإن كثيرين منهم يعيد ترديد معزوفته المفضلة أن "الربيع العربي" لم يكن إلا مؤامرة غربية- إسرائيلية- تركية- قَطَرِيَّةً- إخوانية. طبعاً، لا داعي للسؤال، هنا، عن منطقية هذا الاتهام وهذه الخلطة العجيبة، فمن يبرّرون اليوم سفك دماء شعوبهم، كما في سورية ومصر، لن تردعهم مساءلة لمنطقهم، فهم قد نزعوا ما تبقى لديهم من "عِرْقِ حَياءٍ"، وذلك بعد أن داسوا إنسانيتهم تحت أقدامهم.
بدايةً، لا يمكن لعاقل أن ينكر أن مسار الثورات العربية آلَ إلى فشل، على الأقل في المديين القصير والمتوسط، وانتهى إلى كوارث رهيبة. إننا نرى ذلك بأمِّ أعيننا اليوم. ولكن، هل من الصحيح الزعم بأن الحال الذي انتهينا إليه في فضائنا العربي هو نتيجة مترتبة على تلك الثورات؟ يمارس من يطرحون مثل هذا التساؤل، ومثل هذا التشكيك، تعامياً مقصوداً، بل وتزييفاً عن سبق إصرار وترصّد، عن أن تلك الثورات ما كانت لتقع، لو لم يكن ثمّة مسببات حتمية لها. حتى زعمهم أن تلك الثورات ما هي إلا فوضى مهندسَة من التحالف السابق الإشارة إليه يمثل إدانةً لمنطقهم. فلماذا تثور الشعوب على أنظمتها، ضمن سياق مؤامرةٍ خارجية، لو لم تكن ثمّة أسباب وجيهة لديها للثورة والعصيان؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي يتعمد أنصار نظرية المؤامرة، من كهنة الاستبداد والقمع، التهرّب من الإجابة عليه.
ما لا يريد كثيرون الإقرار به أن الدولة القُطْرِيَّةَ العربية، منذ تشكلها بعد موجات الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي المباشر، في حِقَبِ منتصف القرن الماضي، انتهت إلى فشل ذريع. لم
تتمكّن الدولة القُطْرِيَّةُ العربية من تقديم أنموذج يفتخر به مواطنوها، وعجزت عن تقديم إجاباتٍ للتحديات التي تواجهها الشعوب العربية. ولا أظن أن الحديث عن فشل الدولة القُطْرِيَّةِ العربية، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعسكريا، أمر جديد على من يعيش في العالم العربي. حتى الدول العربية التي تعيش وضعاً اقتصادياً جيداً الآن، فإنها مدينةٌ بذلك إلى مصادر وثروات طبيعية تملكها، لا إلى تصنيعٍ وإنتاج تتقنهما. إنه الاقتصاد الريعي، بكل ما يحمله المفهوم من معنى. لم نقدم أنموذجاً واحداً ناجحاً لدولة، حتى وإن لم تملك ثرواتٍ طبيعية، لكنها حققت طفراتٍ اقتصادية وتكنولوجية، وأصبحت من الدول العظمى اقتصادياً، كاليابان وكوريا الجنوبية. لماذا؟ باختصار، لأن الدولة القُطْرِيَّةَ العربية لم تستثمر في إنسانها قَط، ولم تملك يوماً رؤية ومشروعا للتنمية، وهو أمر رأينا، في السنوات الأخيرة، أثره البناء، إن امتلكته أمة، في دولةٍ جارةٍ لنا هي تركيا.
عوضاً عن الاستثمار في الإنسان العربي، وهو إنسانٌ ذكيٌّ ومنتجٌ، تشهد بذلك إنجازاته في دول الغرب، عندما تتاح له الفرصة، وعوضاً عن وضع خطط تنموية، والتأسيس لدول منتجة وقوية، فإن الدولة القُطْرِيَّةَ العربية لجأت إلى سلاح القمع ونزع الإنسانية من مواطنيها. عاملتهم على أنهم عبيدٌ وموضوع لا أحرارا وبشرا.. أدارت دولاً متخلفة في كل مجال وعلى كل صعيد. استثمرت في أجهزة أمنها لحفظ الأنظمة الحاكمة، وَسَمَّنَتْ جيوشاً لا تنتصر إلا على شعوبها، وفي محاربة العرب بعضهم بعضاً. إننا اليوم، نحن العرب، عالةٌ على العالم في كل شيء تقريبا، حتى ثرواتنا لا نستطيع استثمارها من دون تكنولوجيا الغرب والشرق. أما أمننا القومي، فإنه يخضع لمعادلات إقليمية ودولية، فإن رفعت المظلة عنا أصبحنا مكشوفين أمام أعداء آخرين. أقول أعداء آخرين، ذلك أن من يوفر المظلة الحمائية لكثيرين منا ليس صديقاً ولا حليفاً، بل هو عدو بحد ذاته، ولا يريد بنا خيرا، و"حمايته" لها ثمن باهظ من ثرواتنا وكرامتنا واستقلالنا وآمالنا، نحن العرب.
نعم، سُحق الإنسان العربي على مدى عقود طويلة سحقاً، ودمرت أوطانه وأحلامه. وفي مقابل ذلك، فإنه لم يحصل على الأمن الغذائي، ولا الأمن السياسي، ولا الأمن العسكري. إنه لم
يحصل على شيء يفخر به، بوصفه عربياً، كما أنه يعلم أن المستقبل لا يحمل الأفضل له، ولا لأولاده، ولا لأحفاده، إن صبر أكثر. فإذا كان الحال كذلك، فلماذا يصبر أكثر؟ وإلى متى؟ ومن أجل ماذا؟ إنه يرى ويعيش القمع الذي يتزايد باضطراد، يرى بأمِّ عينيه الفساد يستشري أكثر فأكثر، والأغنياء يزدادون ثراءً وفحشاً، والفقراء يزدادون فاقة وبؤساً. قبول الإنسان العربي بمثل هذا الواقع الآسن هو المؤامرة الحقيقية، ذلك أنه يعاكس نواميس الكون وطبيعة الإنسان. غياب التغيير البنَّاءِ عربياً واستحالته هو سبب الثورات والانفجار، لا العكس.
للأسف، إنَّا لمَّا نرى الانفجار الحقيقي في المنطقة العربية، وهو قادم. ازداد الواقع الكئيب الذي نعيشه سوداوية، بل وأضيف إليه مزيد من القتل وسفك الدماء وتمزيق مجتمعاتنا سياسياً وإيديولوجياً وقبلياً وجهوياً وَقُطْرِيّاً وطائفياً. من كان يظن أن سفك الدماء الذي يجري في سورية أو في العراق على أيدي طغاةٍ منا، وعلى أيدي دول إقليمية وأجنبية بربرية، سيحتوي الانفجار القادم، فإنه واهم. قد تنجح هذه البربرية التي نراها وهذا القمع وهذه الثورات المضادة، كما في مصر وليبيا واليمن، في امتصاص روح التغيير الثوري البنَّاءِ إلى حين، لكنها لن تفلح أبداً في منع الانفجار وانفلات الفوضى في المنطقة ككل. هذا مستحيل، فكل عناصر المعادلة تصب في وعاء هذا القَدَرِ، بل وتزيد من جحيم حجم دماره. هل ثمّة فرصة لتفادي ذلك كله، ومنع العدو الخارجي من امتطاء صهوة إخفاقاتنا وضعفنا، جميعا، حكاماً ومحكومين؟ نعم، لكنها شبه مستحيلة، ضمن معطياتنا الحالية. فبدون توافقٍ بين كل مكونات فضائنا العربي، شعوباً وأنظمة وتيارات سياسية وإيديولوجية، على التأسيس لنهضةٍ عربيةٍ شاملة، ديمقراطية مستقلة وحدوية تكاملية منتجة وقوية، فارتقب الطوفان، وهو ما أخشى أنه قادمٌ لا محالة.
بدايةً، لا يمكن لعاقل أن ينكر أن مسار الثورات العربية آلَ إلى فشل، على الأقل في المديين القصير والمتوسط، وانتهى إلى كوارث رهيبة. إننا نرى ذلك بأمِّ أعيننا اليوم. ولكن، هل من الصحيح الزعم بأن الحال الذي انتهينا إليه في فضائنا العربي هو نتيجة مترتبة على تلك الثورات؟ يمارس من يطرحون مثل هذا التساؤل، ومثل هذا التشكيك، تعامياً مقصوداً، بل وتزييفاً عن سبق إصرار وترصّد، عن أن تلك الثورات ما كانت لتقع، لو لم يكن ثمّة مسببات حتمية لها. حتى زعمهم أن تلك الثورات ما هي إلا فوضى مهندسَة من التحالف السابق الإشارة إليه يمثل إدانةً لمنطقهم. فلماذا تثور الشعوب على أنظمتها، ضمن سياق مؤامرةٍ خارجية، لو لم تكن ثمّة أسباب وجيهة لديها للثورة والعصيان؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي يتعمد أنصار نظرية المؤامرة، من كهنة الاستبداد والقمع، التهرّب من الإجابة عليه.
ما لا يريد كثيرون الإقرار به أن الدولة القُطْرِيَّةَ العربية، منذ تشكلها بعد موجات الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي المباشر، في حِقَبِ منتصف القرن الماضي، انتهت إلى فشل ذريع. لم
عوضاً عن الاستثمار في الإنسان العربي، وهو إنسانٌ ذكيٌّ ومنتجٌ، تشهد بذلك إنجازاته في دول الغرب، عندما تتاح له الفرصة، وعوضاً عن وضع خطط تنموية، والتأسيس لدول منتجة وقوية، فإن الدولة القُطْرِيَّةَ العربية لجأت إلى سلاح القمع ونزع الإنسانية من مواطنيها. عاملتهم على أنهم عبيدٌ وموضوع لا أحرارا وبشرا.. أدارت دولاً متخلفة في كل مجال وعلى كل صعيد. استثمرت في أجهزة أمنها لحفظ الأنظمة الحاكمة، وَسَمَّنَتْ جيوشاً لا تنتصر إلا على شعوبها، وفي محاربة العرب بعضهم بعضاً. إننا اليوم، نحن العرب، عالةٌ على العالم في كل شيء تقريبا، حتى ثرواتنا لا نستطيع استثمارها من دون تكنولوجيا الغرب والشرق. أما أمننا القومي، فإنه يخضع لمعادلات إقليمية ودولية، فإن رفعت المظلة عنا أصبحنا مكشوفين أمام أعداء آخرين. أقول أعداء آخرين، ذلك أن من يوفر المظلة الحمائية لكثيرين منا ليس صديقاً ولا حليفاً، بل هو عدو بحد ذاته، ولا يريد بنا خيرا، و"حمايته" لها ثمن باهظ من ثرواتنا وكرامتنا واستقلالنا وآمالنا، نحن العرب.
نعم، سُحق الإنسان العربي على مدى عقود طويلة سحقاً، ودمرت أوطانه وأحلامه. وفي مقابل ذلك، فإنه لم يحصل على الأمن الغذائي، ولا الأمن السياسي، ولا الأمن العسكري. إنه لم
للأسف، إنَّا لمَّا نرى الانفجار الحقيقي في المنطقة العربية، وهو قادم. ازداد الواقع الكئيب الذي نعيشه سوداوية، بل وأضيف إليه مزيد من القتل وسفك الدماء وتمزيق مجتمعاتنا سياسياً وإيديولوجياً وقبلياً وجهوياً وَقُطْرِيّاً وطائفياً. من كان يظن أن سفك الدماء الذي يجري في سورية أو في العراق على أيدي طغاةٍ منا، وعلى أيدي دول إقليمية وأجنبية بربرية، سيحتوي الانفجار القادم، فإنه واهم. قد تنجح هذه البربرية التي نراها وهذا القمع وهذه الثورات المضادة، كما في مصر وليبيا واليمن، في امتصاص روح التغيير الثوري البنَّاءِ إلى حين، لكنها لن تفلح أبداً في منع الانفجار وانفلات الفوضى في المنطقة ككل. هذا مستحيل، فكل عناصر المعادلة تصب في وعاء هذا القَدَرِ، بل وتزيد من جحيم حجم دماره. هل ثمّة فرصة لتفادي ذلك كله، ومنع العدو الخارجي من امتطاء صهوة إخفاقاتنا وضعفنا، جميعا، حكاماً ومحكومين؟ نعم، لكنها شبه مستحيلة، ضمن معطياتنا الحالية. فبدون توافقٍ بين كل مكونات فضائنا العربي، شعوباً وأنظمة وتيارات سياسية وإيديولوجية، على التأسيس لنهضةٍ عربيةٍ شاملة، ديمقراطية مستقلة وحدوية تكاملية منتجة وقوية، فارتقب الطوفان، وهو ما أخشى أنه قادمٌ لا محالة.