الانحطاط الأخلاقي والفوضى مبرّران زائفان للاستبداد

26 مارس 2019
+ الخط -
الاستبداد فعل قوة يهدف إلى إرغام الجماهير على الانصياع إلى سلطة قاهرة، تتجاوز في ممارساتها كل أطر الشرعية العقلانية والقانونية، إلا أنه، كظاهرة سياسية، تكرّس في مراحل عدة من تاريخ البشرية، عندما تحول، بفعل الخطاب السلطوي المضلل، إلى أيديولوجيا كلية وشاملة، تستبطن كذباً الوعي التاريخي الزائف لجماعات إنسانية تمر بمراحل انحطاط، بعدما قامت السلطة نفسها بتزييفه، عبر عملية ممنهجة ومنظمة، فهناك مرتكز أخلاقي/ اجتماعي دائماً ما يركن إليه الاستبداد، كجزء أصيل من شرعيته السياسية التي تبرّر وجوده، وتمرّر تجاوزاته الفجّة، تجاه الجماهير، وهو انحطاطها الفكري والأخلاقي الذي يعني، أولاً، عدم أهلية تلك الجماهير لاختيار من يحكمها اختياراً عقلانياً حرّاً، ويعني ثانياً إمكانية تحول الحرية الديمقراطية، إذا ما ارتفع سقفها إلى فوضى مدمرة، تهدم المجتمعات وتدمر الدول. 
لذلك لم يكن غريباً أن يكون هذا المرتكز بمثابة بند تأسيسي في أغلب النظريات والأطروحات التي تبنت فكرة إقصاء الجماهير عن المشهد السياسي لحساب سلطة ديكتاتورية، وحاكم مستبد، فالفلسفة اليونانية قدمت، عبر أفلاطون، أول نموذج يسم الجماهير بالانحطاط الأخلاقي، فالبشر 
أنانيون، يتهافتون على الملذات الحسية، لإشباع نزواتهم. ولهذا يجب إخضاعهم لحكومةٍ تقدم الخير للجميع، يترأسها فلاسفة وحكماء مؤهلون لقيادة المجتمع، وتربية أبنائه على معنى الشرف، وهو المنطق الذي تلقفه فيلسوف عصر النهضة الإيطالي، مكيافيللي، لتبرير الاستبداد، فالأمن والاستقرار السياسي يتطلبان حاكماً له قلب أسد، ودهاء ثعلب، لأن الإنسان مخلوقٌ أناني ودنيء، لا تُخضعه إلا القوة والحيلة، بحسب ما ذكر في كتابه "الأمير".
وعلى الرغم من الطابع العلماني الصرف لأطروحة مكيافيللي، إلا أن مضمونها الأساسي استُخدم أيضاً لتكريس مبدأ الحق الإلهي للملوك في الحكم المطلق الذي برّره الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، انطلاقاً من فطرة الإنسان الأنانية الشريرة، فالناس لو تركوا على فطرتهم لعاشوا وفق شريعة الغاب، وانعدم الأمن، وسادت الفوضى. ولهذا كان لا بد للناس من أن يفوّضوا أمرهم لملكٍ قويٍّ حازم، يقيم العدل فيهم، ويحميهم من شرور أنفسهم، ولا يُسأل عما يفعل إلا أمام ضميره وتجاه الرب. ولعل الاستدعاء العربي الفكري الأبرز لتلك الأطروحة تمثل في مقالة الشيخ محمد عبده (1849 - 1905)، عن المستبد العادل الذي يربي الأمة أولاً قبل أن تأتيها مبادئ الديمقراطية الغربية، غزوة حضارية وافدة، محملة بأخلاقيات الغرب المنحلة التي قد تُفسد الجماهير في البلاد المسلمة.
بُنيت موجة الكراهية الجارفة للديمقراطية التي علت في أعقاب الربيع العربي، واحداً من المكونات الأساسية لخطاب الثورة المضادة، على هذه العلاقة العلية ما بين الاستبداد والانحطاط الأخلاقي وما يترتب عليه من فوضى مدمرة، إذا أخذت الجماهير غير المؤهلة للديمقراطية فرصةً حقيقيةً لاختيار من يحكمها، إلا أن الإشكالية الأساسية في طبيعة تلك العلاقة تكمن في أيهما السبب وأيهما الأثر.
تضلل السلطة المستبدة الجماهير بطرح ذاتها أثراً لحالة انحطاط أخلاقي راسخة ومتجذرة في المجتمع، ومن ثم يعكس وجودها معادلةً تاريخية وأيديولوجية شاملة، تتجاوز حدود سلطتها الضيقة، مستبطنةً حالة الوعي الجماهيري العام. ومن ثم، هي تستمد شرعيتها، سياسياً وأخلاقياً، باعتبارها محصلة نهائية لواقع متردٍ قائم بالفعل. إلا أن العكس هو الصحيح، فالسلطة المستبدة كانت وما زالت سبباً لكل أشكال الانحطاط الأخلاقي التي تعيشها المجتمعات التي ترزح تحت وطأة الاستبداد، فإذا ما تأملنا حال الأمة العربية التي عانت عقوداً من استبداد النظم العسكرية التقليدية التي تعبر عنها في نسختها الراهنة نظمٌ، كنظام الأسد وغيره من النظم التي تجري عملية إعادة إنتاجها في الدول العربية التي تعثرت فيها تجربة الديمقراطية الوليدة بعد
 الربيع العربي، إذا تأملنا هذا الحال، نجد أن ممارسات تلك النظم تؤكد صحة مقولة الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت مل، إن الأخلاق العامة لكل دولة تنبثق مما تراه الطبقات المهيمنة فيها معبّراً عن مصالحها، ومرسخاً لشعورها بسموها وسيادتها.
ومن هنا، يمكن القول إن الاستبداد السياسي سبب في كل أشكال الانحطاط الأخلاقي، ولا سيما أن تلك النظم قد احتكرت، عقوداً، عملية التنشئة السياسية والأخلاقية للجماهير، فلم يكن مسموحاً الحديث في الأخلاق أو السياسة إلا لأبواقها وجَوقات نفاقها التي تردّد دائماً ما يخدم السلطة انتظاراً لعطاياها، شأن غالبية النخبة الثقافية العربية التي برّرت الاستبداد، وما زالت تبرّره، سواء باسم مواجهة الاستعمار، إبّان حقبتي الخمسينيات والستينيات، أو بفعل فوبيا الخوف المرضي من الفوضى، كما يحدث الآن. ومن ثم يمكن القول إجمالاً إن النخبة السياسية والثقافية المدافعة عن الديكتاتورية والاستبداد، حرصاً على الأخلاق، وخوفاً من الفوضى، مطالبةٌ بالإجابة عن سؤالٍ أعتبره سؤال اللحظة حضارياً وسياسياً: كيف يمكن تصوّر حال الغرب المتحضر الديمقراطي الآن، إذا ما انتصر خطاب أفلاطون ومكيافيللي وهوبز على خطاب قادة الحداثة والتنوير، وكيف أصبح حالنا، نحن العرب، أخلاقياً وسياسياً، بعد عقود من الاستبداد والديكتاتورية؟
D0C91895-813A-4181-9ACF-D5C005398FD3
D0C91895-813A-4181-9ACF-D5C005398FD3
طارق أبو العينين
طارق أبو العينين