28 أكتوبر 2024
الانتفاضة... إقدام الشباب وتردد النخب
أمام إرث سنوات التعلق بأوهام المفاوضات الممتدة، والحلول السحرية التي ستنبثق عنها لتنهي عقوداً من الصراع العربي الإسرائيلي، وإزاء تشكل طبقة فلسطينية سياسية جديدة، أدمنت التعايش مع أجواء "أوسلو"، وربطت مصالحها ورؤيتها مع استمرار هذا الواقع المرير، ووسط تخوفها من مجهول قادم، ينهي كل ما راكمته من بنية سياسية، ومصالح قائمة على استمرار التعايش مع الاحتلال، حتى لو كان ذلك المجهول المعلوم يحصر مهمته بالتصدي للاحتلال، ويتجنب الصدام المباشر مع السلطة الفلسطينية وأجهزتها.
أمام هذا الإرث المتراكم، قد يكون مفهوماً تردد السلطة الفلسطينية وعجزها وعدم قدرتها على اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة، تواكب انتفاضة الجيل الذي ولد وكبر واستشهد في ظل هذه الاتفاقات. الانتفاضة التي تدخل الآن شهرها الثالث، من دون أن تتوقف لحظة، تاركة خلفها لهاث كل من تحدث أنها موجة وتمر ما إن تتم تهدئة الوضع المتفجر في الأقصى، أو راهن على قدرة الإجراءات الإسرائيلية على وأدها في مهدها، أو سعى إلى جني مكاسبها، معتبراً أنها حرّكت المياه الراكدة، ساعيا إلى العودة إلى المفاوضات وإيقاظها من غفوتها. تحولت المياه الراكدة هذه إلى مياه آسنة، فاحت رائحتها حتى أزكمت الأنوف، وأية محاولة لتحريكها والإبحار فيها لن يجلب لصاحبها سوى مزيد من الغرق في هذا المستنقع الآسن، والبعد عن آمال الجماهير وتطلعاتها المحلقة فوق بحر الانتفاضة والمقاومة الذي تصب فيه يومياً دماء الشهداء.
لا تحسد السلطة الفلسطينية على موقفها الحائر والمتردد، فهي لا تستطيع منع الشباب من التوجه نحو نقاط الاحتكاك مع حواجز العدو وتجمعات مستوطنيه. كما أن التنسيق الأمني (وهو حال الأجهزة الإسرائيلية أيضاً) غدا مشلولاً وعاجزاً عن وقف عمليات الطعن بالسكين، أو الدهس بالسيارة، إذ لا توجد هنا خلية تُتابع، أو اتصال يُخترق، أو تمويل مالي يتم رصده. لا يوجد إلا فكرة نمت في رأس صاحبها أو صاحبتها، فكرة كامنة في عقل منفذها، وحده يقرر أين ومتى وكيف، فكرة يستحيل رصدها أو كشفها أو تعقبها، أو معرفة في أي عقل تقبع إلا بعد تنفيذها. وهي مثل كل فكرة، لا يمكن الحجر عليها، بل رأينا كيف تشكلت مثل كرة الثلج، تكبر كلما تتدحرج، وتنتقل بسرعة البرق، تحملها ريح الانتفاضة، من منطقة إلى أخرى، ومن شهيد إلى مشروع شهيد.
وإذا كان مفهوماً أن السلطة الفلسطينية لا تستطيع تأييد الإنتفاضة ودعمها، في الوقت الذي لا
تستطيع فيه وقفها، وأن موقفها يتأرجح بين هذا وذاك، على الرغم من بعض التصريحات والمواقف، الإيجابية أحياناً، والصادمة أحياناً أخرى، وآخرها تلك المصافحة المستهجنة بين الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على هامش قمة المناخ، فإن غير المفهوم موقف القوى والفصائل الأخرى من عدم الانخراط الفعلي في الانتفاضة وفعالياتها، إضافة الى موقف بعض المثقفين والجمعيات الذين غابت عنهم رؤية الاحتلال الجاثم على الأرض الفلسطينية، وممارساته الوحشية ونزعته الاستيطانية الإحلالية، لينطلقوا بدلاً من ذلك في نقد نمط عمليات الطعن بالسكين، باعتباره من أعمال العنف، أو استغلالا لمشاعر الأطفال، وإقحامهم في أعمالٍ لا تليق بطفولتهم البريئة، متناسين أن استمرار الاحتلال هو أساس مصائبنا، وأنه المسؤول الأول والأخير عن اغتصاب الوطن وانتهاك براءة أطفاله.
شباب الانتفاضة هم أبناء للشعب الفلسطيني، بمختلف قواه وفصائله واتجاهاته، وعبر عملياتهم ومواجهاتهم بالحجر والسكين والمولوتوف والأجساد العارية، والكف التي تناطح المخرز الصهيوني، إنما يقومون بقرع متواصل على جدران الخزان المحتجزين فيه، ولا يجوز تحميلهم بأكثر مما يقومون به من تضحيات يومية. وهنا، يتساءل المرء عن دور بعض من في الفصائل والمثقفين الذين ينتقدون الانتفاضة، لعدم وجود برنامج واضح لها، يرسم أهدافاً وطنية متفقاً عليها، ويحدد الوسائل والأساليب التي على الانتفاضة أن تتبعها، وكأن لسان حالهم يقول دعونا نؤجل ذلك كله، وندع المقاومة والانتفاضة جانباً إلى أن نفرغ من رسم برنامجها السياسي، ونحقق المصالحة الوطنية، وهم يتناسون أن هذا واجبهم الذي لم يقوموا به على مر الأشهر والسنوات، وأنهم لن يتمكنوا من تحقيقه بعيداً عن نضالات الجماهير اليومية، وما ترسمه من وقائع مستمرة على الأرض. وحسبها أن تكون دعوة الشباب، هنا، كما الشعار القديم المتجدد، دعوة للقاء السواعد الثورية في أرض المعركة والانتفاضة، فبهذا تختصر المسافات، وتتحدد الأهداف بدقة، دحر الاحتلال عبر مقاطعته وعزله ومقاومته، بكل الوسائل المشروعة والمتاحة للشعب الفلسطيني. وهنا، تتشكل حاضنة الانتفاضة السياسية، ويرتسم برنامجها النضالي، وتتحدد قياداتها الفعلية.
بعض من في الفصائل، أيضاً، ما يزال يخشى من الزج بفصيله وجمهوره في أتون الانتفاضة، معتقدا أنها هَبّة عاطفية، لا تلبث أن تنتهي، منطلقا من فهم خاطئ لموازين القوى وأساليب مواجهة الاحتلال، ومعللا النفس بأن الأحداث الإقليمية التي تدور من حول فلسطين هي التي سيكون لها العامل الحاسم في رسم المسار الفلسطيني، وما علينا إلا أن نجلس وننتظر نتائج ما يدور حولنا، من دون أن نتعرّض لخطر الملاحقة، بسبب مشاركتنا.
غني عن القول إن مثل هذا المنهج الانتظاري جرّبه شعبنا، طوال ربع قرن مضى، ولم يسفر إلا عن مزيد من ابتلاع الأرض، وأن المحافظة على الذات الحقيقية، بل والنمو والانتشار، وصولاً إلى قيادة الشعب الفلسطيني، أو المشاركة في هذه القيادة، لا تكون إلا بمزيد من الانخراط في النضالات اليومية، وتقديم التضحيات الجسام، ناهيك عن الخلل الأساسي في منهج فهم موازين القوى، وإمكانات التغيير، وقلب الواقع، وهو المنهج الذي يميز الثورات عن الحركات السياسية المعتادة.
لا يعيب أية قيادة أن تسبقها الجماهير بخطوات، لكن ما يعيبها أن لا تلتقط نبض الجمهور، وأن لا تدرك اللحظة التاريخية التي تمر بها، فهذا ما يميز القيادات والثورات المنتصرة، عن التي تعثرت في مسيرتها. أيدي شباب الانتفاضة بتضحياتهم ومثابرتهم تدق جدران الخزان، وعلى السلطة الفلسطينية أن تعتدل، وعلى الفصائل أن تبادر إلى الإمساك بدورها التاريخي، وعلى الجماهير الشعبية أن تحول الانتفاضة إلى فعل جماهيري شعبي يومي، يصعب فيه القضاء على انتفاضة شعب بأسره، وعلى الأمة العربية وأحرار العالم أن يستجيبوا لتلك السواعد الثورية، من خلال الدعم والمقاطعة، وتحقيق العزلة الدولية على الكيان الصهيوني.
بذلك فقط، تتحول تلك الدقات على الجدران إلى صوت مدوٍّ كالرعد قادر على اقتلاع الاحتلال من جذوره.
أمام هذا الإرث المتراكم، قد يكون مفهوماً تردد السلطة الفلسطينية وعجزها وعدم قدرتها على اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة، تواكب انتفاضة الجيل الذي ولد وكبر واستشهد في ظل هذه الاتفاقات. الانتفاضة التي تدخل الآن شهرها الثالث، من دون أن تتوقف لحظة، تاركة خلفها لهاث كل من تحدث أنها موجة وتمر ما إن تتم تهدئة الوضع المتفجر في الأقصى، أو راهن على قدرة الإجراءات الإسرائيلية على وأدها في مهدها، أو سعى إلى جني مكاسبها، معتبراً أنها حرّكت المياه الراكدة، ساعيا إلى العودة إلى المفاوضات وإيقاظها من غفوتها. تحولت المياه الراكدة هذه إلى مياه آسنة، فاحت رائحتها حتى أزكمت الأنوف، وأية محاولة لتحريكها والإبحار فيها لن يجلب لصاحبها سوى مزيد من الغرق في هذا المستنقع الآسن، والبعد عن آمال الجماهير وتطلعاتها المحلقة فوق بحر الانتفاضة والمقاومة الذي تصب فيه يومياً دماء الشهداء.
لا تحسد السلطة الفلسطينية على موقفها الحائر والمتردد، فهي لا تستطيع منع الشباب من التوجه نحو نقاط الاحتكاك مع حواجز العدو وتجمعات مستوطنيه. كما أن التنسيق الأمني (وهو حال الأجهزة الإسرائيلية أيضاً) غدا مشلولاً وعاجزاً عن وقف عمليات الطعن بالسكين، أو الدهس بالسيارة، إذ لا توجد هنا خلية تُتابع، أو اتصال يُخترق، أو تمويل مالي يتم رصده. لا يوجد إلا فكرة نمت في رأس صاحبها أو صاحبتها، فكرة كامنة في عقل منفذها، وحده يقرر أين ومتى وكيف، فكرة يستحيل رصدها أو كشفها أو تعقبها، أو معرفة في أي عقل تقبع إلا بعد تنفيذها. وهي مثل كل فكرة، لا يمكن الحجر عليها، بل رأينا كيف تشكلت مثل كرة الثلج، تكبر كلما تتدحرج، وتنتقل بسرعة البرق، تحملها ريح الانتفاضة، من منطقة إلى أخرى، ومن شهيد إلى مشروع شهيد.
وإذا كان مفهوماً أن السلطة الفلسطينية لا تستطيع تأييد الإنتفاضة ودعمها، في الوقت الذي لا
شباب الانتفاضة هم أبناء للشعب الفلسطيني، بمختلف قواه وفصائله واتجاهاته، وعبر عملياتهم ومواجهاتهم بالحجر والسكين والمولوتوف والأجساد العارية، والكف التي تناطح المخرز الصهيوني، إنما يقومون بقرع متواصل على جدران الخزان المحتجزين فيه، ولا يجوز تحميلهم بأكثر مما يقومون به من تضحيات يومية. وهنا، يتساءل المرء عن دور بعض من في الفصائل والمثقفين الذين ينتقدون الانتفاضة، لعدم وجود برنامج واضح لها، يرسم أهدافاً وطنية متفقاً عليها، ويحدد الوسائل والأساليب التي على الانتفاضة أن تتبعها، وكأن لسان حالهم يقول دعونا نؤجل ذلك كله، وندع المقاومة والانتفاضة جانباً إلى أن نفرغ من رسم برنامجها السياسي، ونحقق المصالحة الوطنية، وهم يتناسون أن هذا واجبهم الذي لم يقوموا به على مر الأشهر والسنوات، وأنهم لن يتمكنوا من تحقيقه بعيداً عن نضالات الجماهير اليومية، وما ترسمه من وقائع مستمرة على الأرض. وحسبها أن تكون دعوة الشباب، هنا، كما الشعار القديم المتجدد، دعوة للقاء السواعد الثورية في أرض المعركة والانتفاضة، فبهذا تختصر المسافات، وتتحدد الأهداف بدقة، دحر الاحتلال عبر مقاطعته وعزله ومقاومته، بكل الوسائل المشروعة والمتاحة للشعب الفلسطيني. وهنا، تتشكل حاضنة الانتفاضة السياسية، ويرتسم برنامجها النضالي، وتتحدد قياداتها الفعلية.
بعض من في الفصائل، أيضاً، ما يزال يخشى من الزج بفصيله وجمهوره في أتون الانتفاضة، معتقدا أنها هَبّة عاطفية، لا تلبث أن تنتهي، منطلقا من فهم خاطئ لموازين القوى وأساليب مواجهة الاحتلال، ومعللا النفس بأن الأحداث الإقليمية التي تدور من حول فلسطين هي التي سيكون لها العامل الحاسم في رسم المسار الفلسطيني، وما علينا إلا أن نجلس وننتظر نتائج ما يدور حولنا، من دون أن نتعرّض لخطر الملاحقة، بسبب مشاركتنا.
غني عن القول إن مثل هذا المنهج الانتظاري جرّبه شعبنا، طوال ربع قرن مضى، ولم يسفر إلا عن مزيد من ابتلاع الأرض، وأن المحافظة على الذات الحقيقية، بل والنمو والانتشار، وصولاً إلى قيادة الشعب الفلسطيني، أو المشاركة في هذه القيادة، لا تكون إلا بمزيد من الانخراط في النضالات اليومية، وتقديم التضحيات الجسام، ناهيك عن الخلل الأساسي في منهج فهم موازين القوى، وإمكانات التغيير، وقلب الواقع، وهو المنهج الذي يميز الثورات عن الحركات السياسية المعتادة.
لا يعيب أية قيادة أن تسبقها الجماهير بخطوات، لكن ما يعيبها أن لا تلتقط نبض الجمهور، وأن لا تدرك اللحظة التاريخية التي تمر بها، فهذا ما يميز القيادات والثورات المنتصرة، عن التي تعثرت في مسيرتها. أيدي شباب الانتفاضة بتضحياتهم ومثابرتهم تدق جدران الخزان، وعلى السلطة الفلسطينية أن تعتدل، وعلى الفصائل أن تبادر إلى الإمساك بدورها التاريخي، وعلى الجماهير الشعبية أن تحول الانتفاضة إلى فعل جماهيري شعبي يومي، يصعب فيه القضاء على انتفاضة شعب بأسره، وعلى الأمة العربية وأحرار العالم أن يستجيبوا لتلك السواعد الثورية، من خلال الدعم والمقاطعة، وتحقيق العزلة الدولية على الكيان الصهيوني.
بذلك فقط، تتحول تلك الدقات على الجدران إلى صوت مدوٍّ كالرعد قادر على اقتلاع الاحتلال من جذوره.