الانتخابات الرئاسية الأميركية... الخيار المشوّه

14 سبتمبر 2016
+ الخط -
أميركا في الانتخابات الرئاسية منكوبة بالاختيار الإجباري بين مرشح معطوب وآخر معدوم. المرشحان الآخران، واحد عن التيار "التحرّري" Libertarian ومرشّحة عن حزب الخضر، هامشيان ولا يطمعان بأكثر من تسجيل موقفٍ معترض على النخبة السياسية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وبذلك، بقي في الساحة المرشحة هيلاري كلينتون عن الأول ودونالد ترامب عن الثاني. تملك الأولى المواصفات والمؤهلات، لكنها فاقدة للثقة. ولا يملك الثاني الأهلية، ولا هو جدير بالثقة. القاسم المشترك بينهما أن كليهما غير مرغوب، وبدرجة غير اعتيادية، من جمهور الناخبين. بل من شرائح حزبية لا تطيق مرشحها، خصوصاً بالنسبة لترامب. معادلة نادراً ما كانت على هذه الدرجة من الهبوط والنفور تجاه المرشحين في آن.
المفارقة الكبيرة والغريبة ألا يحظى مرشحٌ على هذه الدرجة من المواصفات الرئاسية، مثل هيلاري كلينتون، بالتأييد الوازن، إذا لم يكن الكاسح. المفارقة الأكبر أن يتمكّن مرشح مثل ترامب، ضحل بل عديم المواصفات، من الوصول إلى المنافسة على الرئاسة من خلال خطاب عنصري، تغلب عليه النرجسية والهلوسة والتهور، ناهيك عن عرض العضلات والتهديدات المجوّفة التي أثارت تهكم كثيرين من كبار العسكريين المتقاعدين. لكن، ليس في هذه ولا في تلك مصادفة، لكلا الحالتين مقدماتها ومسبباتها.
المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون نتاج "نخبة سياسية، من الحزبين، فاشلة"، بتعبير أحد المراقبين المخضرمين. تدرّجت من موقع السيدة الأولى في ولايتها أركنساس التي كان زوجها حاكماً لها إلى موقع السيدة الأولى في البيت الأبيض، ثم إلى مقعد في مجلس الشيوخ، وأخيراً وزيرة الخارجية. ومرت، في هذه المواقع، بفترة تميزت بالترهل السياسي في أميركا، انتعش معه الفساد السياسي. وكانت ممارساتها اللاسوية في وزارة الخارجية من تعبيرات ذلك الفساد الذي عادت، وانكشفت، مفرداته خلال الحملة الانتخابية، في قضية بريد هيلاري الإلكتروني، وفي دورها بالتبرعات لمؤسسة كلينتون الخيرية التي أسسها زوجها. وتضاعفت المآخذ عليها، عندما تبين أنها حاولت حجب الوقائع في هذه الملفات، فضلاً عن المكابرة التي أبدتها في عدم الاعتراف الصريح بها، والتهرب من الاعتذار بخصوصها، وإن اضطرت، أخيراً مواربة، إلى
الإقرار بأنه كان نوعاً من الشطط غير المقبول. ممارسة لطّخت صورتها، وأدت إلى ضمور الثقة بخطابها وطروحاتها ووعودها الانتخابية. وقد تعذّر عليها، حتى الآن، تصحيح الانطباع واستعادة الصدقية. ومن هنا، مراوحة رصيدها في الآونة الأخيرة. بل تراجعه وإن بقليل. في حين كان من المفترض، والمتوقع، أن تكون، في مثل هذا الوقت من الحملة التي لم يبق منها سوى أقل من شهرين، في أحسن حال، وبفارق وازنٍ عن ترامب، والذي هو نتاج مزيج من الحظ ومن حالة التردّي التي أصابت الحزب الجمهوري الذي نخره الاهتراء، بفعل الجمود والحنين إلى الماضي، والتشبث بإعادة عجلات التاريخ إلى الوراء، خصوصاً على صعيد دور الدولة في الإنماء الاجتماعي، والذي يرفضه الجمهوريون المحافظون. بنتيجة الجمود، تكبّل الحزب وعجز عن الوفاء بوعوده لقواعده، فكان أن دبّ فيه التشظي والتفسخ، بحيث توزع على أجنحةٍ، وانتقل شلل معظمها إلى أقصى اليمين، وبما وضع نواته التقليدية في حالةٍ من العجز والضعف.
وسط هذا التبعثر، جاء ترامب، وركب موجة التمرّد على النخبة القيادية المكشوفة التي لم تقو على إنتاج مرشحٍ واحدٍ ينافس ترامب الذي تمكن من إزاحة 16 مرشحاً من الدرجة الثانية، الواحد تلو الآخر في الانتخابات التمهيدية. لم يتغلب عليه مرشح جمهوري واحد طوال المرحلة التمهيدية. وبذلك، قطف الترشيح وفرضه على من تبقى من الحزب الذي توزّعت قياداته ومرجعياته، بين مؤيدٍ له، باعتباره الفائز بأصوات الحزب، ومعترض على ترشيحه، من باب أنه وصفة لهزيمة نكراء للحزب الجمهوري. ذهب بعضهم إلى حد الدعوة إلى التصويت لمصلحة كلينتون، من أجل ضمان سقوط ترامب، خوفاً من أن يقضي على ما تبقى من الحزب، لو فاز بالرئاسة.
بات المشهد الانتخابي، الآن، يتمحور حول اثنين، بوضعين مختلفين ومتشابهين في آن: كلينتون المعطوبة مع وقوف حزبها بشكل متماسكٍ وراءها، وترامب الخارج عن سربه المنقسم حول معركته. هي متفوقة في سائر الاستطلاعات، ولو بفارق بسيط، وهو يزاحمها عن قرب، من دون أن يشكل عليها خطراً حتى الآن. وغالباً لن يشكل. يعود صعوده، أو قدرته على
المزاحمة، إلى اهتزاز وضع كلينتون وصورتها، وليس لارتفاع أسهمه. بهبوطها يبدو كأنه ارتفع. فالجسم الانتخابي الأميركي موزع، حسب الإحصاءات المعتمدة، بين 60% مناصفة تقريباً بين قواعد الحزبين، و40% في الموقع النصفي الذي يتوزع بين 28% من المحبذين، لكن المتردّدين تجاه الحزبين، و12% من المحايدين المتحركين باستقلالية تامة. بقي حسم المعركة دائماً بيد الـ 40%، وبالتحديد بيد الـ 12%. هم بيضة القبان. من هذا القطاع الذي مال نحو كلينتون فعل لنفوره من ترامب. والعكس بالعكس. ورقة ترامب أنه بالنسبة لفئةٍ من هؤلاء من خارج الطبقة السياسية، ولو شكلاً وموقعاً، وهي ورقة تلعب ضد كلينتون. فهناك حالة من النقمة على أهل السياسة التقليدية. وهذا ما يفسر صعود السيناتور بيرني ساندرز الخارق، والذي كاد أن يطيح كلينتون في الانتخابات التمهيدية. مع ذلك، تبدو نواقص ترامب، وفق الاستطلاعات، دائمةً ومتفوقة على أعطاب كلينتون. ولا سيما أنه يقع دورياً في سقطاتٍ، تزيد من تهشيم صورته. من جديدها عندما قال ما يفيد بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أفضل من الرئيس الأميركي، باراك أوباما. حتى الجمهوريون المتعاطفون معه، ولو على مضض، استنكروا هذه الفجاجة.
يبقى أن هفوات كلينتون تبقى مقبولة نسبياً، ما لم يطلع المزيد والخطير منها قبل يوم الانتخاب، مقارنةً بنواقص ترامب الذي قد يكشف نبش الباقي من دفاتره عن مزيد من اللطخات، وربما الفضائح. لكن المؤكد أن الاثنين غير مقبولين لجسم انتخابي، يشعر أن اختياره، هذه المرة، مشوّه، بحكم عدم وجود خيار آخر أمامه.
4BD5D074-5C22-4C0C-9CE2-472A8DF2BA15
4BD5D074-5C22-4C0C-9CE2-472A8DF2BA15
فكتور شلهوب

كاتب وصحافي لبناني مقيم في واشنطن

فكتور شلهوب