على الرغم من فوز حركة "نداء تونس" في المرتبة الأوّلى في الانتخابات التشريعية التونسية، إلا أنّ حركة "النهضة" لم تُهزم بالضربة القاضية وإنما بالنقاط، كما يُقال في رياضة الملاكمة. فالمشهد الحالي يؤكد أنّ لـ"النهضة" مجالاً واسعاً للمناورة والضغط، في حين أنّ الهامش الذي تتصرف فيه "النداء" الفائزة، ضيق ومحدود.
أجواء الصدمة هيمنت على "النهضويين"، عندما بدأت تتواتر على مركز قيادة الحركة الأخبار الدالة على أنّ "نداء تونس" قد تمكّنت من تحقيق اختراقات قوية في معظم الولايات التونسية، إلى أن تأكدوا بأنهم انهزموا ولم يحصلوا على المرتبة الأوّلى.
كانت النتائج قاسية على الكثيرين منهم، وهو ما يدل بوضوح على أنّ النكسة الانتخابية التي مُنيت بها "النهضة" لم تكن متوقّعة لدى القيادة وبالخصوص لدى القاعدة. وقد يكون نائب رئيس الحركة عبد الفتاح مورو من القلائل داخل الحركة الذي لم يكن يستبعد حصول مثل هذه الخضّة، ويُستشف ذلك من الحوار الذي أجرته معه "العربي الجديد" قبل انطلاق الحملة الانتخابية.
وكانت الحركة عبّأت أنصارها بشكل واسع لتنتصر في الانتخابات، وسخّرت لذلك كل طاقاتها، ونظّمت اجتماعات جماهيرية مبهرة في تنظيمها واتساعها، من أجل إعطاء انطباع لدى منافسيها وخصومها بأنها حزب مهيأ للعودة إلى الحكم بكل قوة وثقة.
وكان من بين شعارات الحملة التي ترددت كثيراً حتى ليلة الصمت الانتخابي، "الشعب يريد النهضة من جديد". ولهذا عندما جاءت النهاية مخالفة للتوقعات، أصيب الكثيرون بالإحباط، وكادت ردود الفعل المنفلتة أنّ تسوق الحركة إلى انزلاق خطير، لولا تدخّل القيادة لتصحيح المسار، وترشيد الخطاب، والبدء في وضع خطة بديلة.
أوّل خطوة في اتجاه امتصاص الصدمة هي الاعتراف بالهزيمة، وتهنئة الفائز. وكانت هذه أولى علامات النضج السياسي بعد الانتخابات، ما جعل الحركة تبدو في مظهر القوة السياسية العاقلة والراشدة، ما زاد في تسويق صورتها على الصعيد الدولي.
وتمثّلت الخطوة الثانية في محاولة النظر في الوجه الآخر من الصورة، فإذا بالحركة تكتشف عناصر قوة عديدة، ومن أهمها أنّ الحركة لم تهشّمها النتائج وتقوّض أركانها، كما حصل مع الكثير من الأحزاب الأخرى، وإنما خرجت من معركة الانتخابات بأقل ما يمكن من الأضرار، وذلك بحصولها على 69 مقعداً، لتشكّل بذلك القوة الثانية القادرة على منع تغوّل الحزب الفائز.
وإذا تمت مقارنة وضع "النهضة" ببقية الأحزاب الأقل وزناً، والتي أصابها تسونامي الانتخابات فحوّلها إلى ذرات صغيرة، يُلاحظ بأن "النهضة" في موقع سيمكّنها من التأثير على مختلف الخيارات المتاحة في المشهد الجديد. ولهذا أعلن رئيس الحركة راشد الغنوشي، بأن حزبه "منفتح على كل الخيارات ومستعد لخدمة تونس من موقع السلطة أو المعارضة".
أما حركة "نداء تونس" فتواجه حالياً خيارات صعبة، ولكل خيار كلفته السياسية، بينما تجد "النهضة" نفسها في المقابل تتعامل بأريحية مع كل السيناريوهات المتاحة. فهي مستعدة لتشكيل حكومة ائتلافية تعيدها إلى السلطة بعد أن خرجت منها، وهي تؤكد باستمرار من خلال تصريحات قادتها ضرورة تشكيل حكومة وطنية. كما أنها مستعدة لتلعب دور محرك المعارضة من خلال جمع أكثر من ثمانين مقعداً، وقد تتجاوز المائة مقعد إذا أرادت، أو تنسّق داخل البرلمان مع مجموعة رجل الأعمال سليم الرياحي.
ويمكنها أيضاً أن تتفاوض مع حركة "النداء" من أجل تقسيم المواقع قبل الحسم في الانتخابات الرئاسية.
بناءً على ما سبق، يمكن القول إنّ الانتخابات التشريعية قد أنقذت "النهضة" من نفسها، عندما كانت مندفعة نحو الحصول على المركز الأوّل لكي تعود إلى السلطة من جديد، بعدما فُرض عليها مغادرة الحكومة نتيجة الأزمة السياسية التي مرت بها البلاد، وكادت أن تعصف بالانتقال السياسي برمته.
ولو حصل أن زكّاها الشعب من جديد، لكان وضعها صعباً، ولوجدت نفسها أمام أوضاع لن تكون في مستوى مواجهتها أو معالجتها. ولكان مصيرها أكثر سوءاً مما آلت إليه تجربتها السابقة في السلطة، فعودتها إلى الحكم يعني عودتها إلى منطقة التنازع وأجواء الحرب الباردة. أما اليوم فإن المشهد الذي أفرزته الانتخابات يعطي فرصة لـ"النهضة" بأن تحوّل تراجعها الانتخابي إلى سلاح يمكن أن تستخدمه لتحقيق مكاسب سياسية مهمة، إذا عرفت كيف تستثمر نقاط ضعف منافسها، وأيضاً كيف تكسب ثقة بقية اللاعبين حتى لو كانوا صغاراً. والمهم ألا تورط نفسها من جديد في السلطة، بعدما كلّفها ذلك خسارة تقدر بنصف مليون ناخب.