تشير كل الاستطلاعات الإسرائيلية بشأن النتائج المتوقعة ونمط تصويت الناخب الإسرائيلي في الانتخابات النيابية المقررة في 17 سبتمبر/أيلول المقبل، إلى استمرار تقدّم وثبات معسكر اليمين المؤيد لرئيس الحكومة، زعيم "الليكود" بنيامين نتنياهو (يتكوّن من الليكود، وحزبي الحريديم شاس ويهدوت هتوراة، وتحالف أحزاب اليمين الديني الصهيوني يميناً) بفارق بضعة مقاعد (57 مقعداً) على معسكر مناهضيه الذي تتم الإشارة إليه باعتباره معسكر الوسط واليسار (وهي تسمية غير دقيقة كما ذكرنا في تقارير سابقة) ويتزعمه رئيس أركان جيش الاحتلال الأسبق، الجنرال بني غانتس، قائد تحالف "كاحول لفان" الذي يحصل على 53 مقعداً (منها بين 10 و12 مقعداً لقائمة الأحزاب العربية).
لكن الاستطلاعات المتواترة تكرر تكريس قوة اليمين المتطرف العلماني والقومي من 10 مقاعد، هي مجمل ما سيحصل عليه حزب "يسرائيل بيتينو" بقيادة أفيغدور ليبرمان، وهي قوة برلمانية تجعل ليبرمان وحزبه "بيضة القبان"، فإذا شاء ليبرمان، شكل نتنياهو حكومته الخامسة متمتعاً بأغلبية كبيرة، وهو ما قد يحصل في نهاية المطاف. وإذا شاء، وقَبِل نتنياهو بشروط ليبرمان، فإنه يعيد للمشهد السياسي الإسرائيلي نمط تشكيل حكومات الوحدة الوطنية، بين الحزبين الكبيرين،"الليكود" و"كاحول لفان" مع حزب ليبرلمان "يسرائيل بيتينو" كقوة ثالثة وازنة، وهو سيناريو يتضح يوماً بعد يوم أن نتنياهو لن يقبل به، لأنه يقوم على قصر مدة بقائه في الحكم (تناوب في رئاسة الحكومة عامين لكل من نتنياهو وغانتس)، ولأن "كاحول لفان" يعارض شرطاً غير معلن لنتنياهو، بتعديل قانون الحصانة البرلمانية بما يضمن عدم تقديم لوائح اتهام ضد نتنياهو ما دام رئيساً للحكومة.
في ظل هذا الوضع الذي يعجز فيه الطرفان عن إحراز اختراق للمعسكر المضاد، وفي ظل سير المعركة الانتخابية وفق تقاسيم ونوتة يفرضها ليبرمان، مع التجاهل المطلق من قبل الأحزاب الكبيرة للعرب في الداخل و"القائمة المشتركة"، على الرغم من تصريحات "خجولة وغير صريحة" لبعض أقطابها (وتحديداً أيمن عودة وأحمد طيبي) بإمكانية توصية رئيس الدولة بعد الانتخابات بتكليف الجنرال غانتس، أجرى رئيس القائمة المشتركة للأحزاب العربية والحزب الشيوعي الإسرائيلي، النائب أيمن عودة، مقابلة مع "يديعوت أحرونوت" نُشرت أمس الجمعة، أعلن فيها استعداده ليس فقط لترشيح غانتس لتشكيل الحكومة المقبلة، أو تشكيل كتلة مانعة تحول دون نتنياهو وكرسي رئاسة الحكومة، بل تخطى ذلك باتجاه الإعلان عن استعداده للدخول في حكومة الجنرال غانتس إذا توفرت شروط في أربعة مجالات مهمة للعرب في الداخل، بينها إلغاء قانون القومية وإلغاء قانون كامينتس وإطلاق مفاوضات على أساس حل الدولتين مع قيادة منظمة التحرير، معلناً تأييده لأي اتفاق يتوصل إليه الطرفان.
مقابلة عودة نُشرت أمس، لكن "يديعوت" روّجت لها منذ الخميس، مما أثار زوبعة سياسية في إسرائيل، كانت بضع ساعات كافية لوأد أثر المقابلة وسدّ الطريق كلياً أمام أي احتمال أو فرصة لتنفيذ هذا الاستعداد على المحك، خصوصاً أن المعارضة لتصريحات عودة جاءت ليس فقط من داخل القائمة، إذ رفضها حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" جملة وتفصيلاً، ولا من قيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي (المركّب الأساسي للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي ينتمي أيمن عودة لها) وجهات أخرى، بل أيضاً من حزب "كاحول لفان" نفسه وأقطابه ممن سارعوا إلى التنصل من هذا الاستعداد، والتأكيد أن حزبهم لن يدخل في شراكة ائتلاف مع أحزاب عربية لا تعترف بإسرائيل دولة الشعب اليهودي، مع تحريض خاص على حزب "التجمع الوطني الديمقراطي".
وكان الأمين العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي، عادل عامر، عمم بياناً نشرته صحيفة "الاتحاد" الناطقة بلسان الحزب أعلن فيه أن "موضوع الانضمام للائتلاف الحكومي غير وارد على جدول أعمال الحزب الشيوعي والجبهة، ومهمّتنا الأساس اليوم هي إسقاط اليمين الاستيطاني الذي يتزعّمه نتنياهو، وصدّ اليمين الفاشي الذي يحاول التسلّق إلى السلطة بكل الطرق، وفي نفس المستوى نسعى لإسقاط نهج اليمين في السياسة الإسرائيلية عامة، بما في ذلك نهج يمين كاحول لفان".
وحاول عودة غداة صدور هذه التصريحات، ولا سيما تلك الصادرة عن حزبه وعن الأحزاب العربية، ناهيك بالرفض المطلق لمبادرته، من قبل حزب الجنرال غانتس، التخفيف من حدة الزوبعة التي أثارتها تصريحاته حتى قبل نشرها بالقول في منشور له أمس على صفحته في "فيسبوك": "اليوم نُشرت المقابلة في يديعوت أحرونوت. هذا هو صُلب برنامجنا: إنهاء الاحتلال بعد مفاوضات حقيقية تفضي لإقامة الدولة الفلسطينية. إلغاء قانون القومية، إلغاء قانون كامينتس، إقامة أوّل مدينة عربية، وجامعة، ومستشفى رسمي ببلدة عربية وتطبيق المساواة الجوهرية. وبالتأكيد العدل الاجتماعي، وبصلبه قضايا فقراء العرب واليهود. ممتاز أن الحملة الانتخابية استيقظت، ممتاز أننا لاعب مركزي ومؤثّر ويضع جدول الأعمال السياسي والإعلامي. ممتاز أننا لا نردّ الفعل فقط وإنما نبادر، والآخرون هم يردّون الفعل".
هدأت الزوبعة التي أثارتها تصريحات أيمن عودة خلال ساعات، لكن ليس قبل أن يستغلها حزب "الليكود" لجهة تكريس ادعائه الانتخابي بأن غانتس هو يسار ضعيف سيشكّل حكومة مشتركة مع العرب وداعمي الإرهاب. وهو ادعاء سارع أيضاً حزب غانتس لتلقفه وقذفه في وجه نتنياهو و"الليكود" بزعم أن هناك تفاهمات سرية بين نتنياهو والأحزاب العربية، بدليل تصويت نواب عرب مع مرشح نتنياهو لمنصب مراقب الدولة، وموافقة الأحزاب العربية على تبكير موعد الانتخابات في 29 مايو/أيار، بدلاً من نقل مهمة تشكيل الحكومة للجنرال غانتس بعد أن فشل نتنياهو في تشكيل الحكومة.
ومثل "الليكود" و"كاحول لفان"، قفز أفيغدور ليبرمان هو الآخر على "الهدية الثمينة"، ليتهم عودة بأن تصريحاته لا تعدو كونها مرحلة وخطوة إضافية في خطة المقرب من نتنياهو، نتان إيشل، لتهيئة الأجواء لتعاون علني بين نتنياهو وبين الأحزاب العربية، سعياً لتشكيل حكومة نتنياهو المقبلة مع الحريديم وبدعم خارجي من الأحزاب العربية.
تلقف ليبرمان لتصريحات عودة ينضم إلى خطوة أخرى قام بها هذا الأسبوع، تؤكد حجم التأثير الذي يملكه ليبرمان في الانتخابات الحالية في إسرائيل. فقد وقّع حزب ليبرمان، "يسرائيل بيتينو" على اتفاق فائض أصوات مع حزب الجنرال غانتس، بما يؤكد من خلاله إصراره على إضعاف "الليكود" والتلويح ببديل لـ"الليكود" ونتنياهو من خلال ضمان عدم ذهاب مقاعد فائض الأصوات لحزب "الليكود"، بما يوحي بتفضيله التوجه لائتلاف مقبل إذا لزم الأمر مع حزب "كاحول لفان" وليس بالضرورة مع "الليكود"، في حال أصر الأخير على تحالفه مع أحزاب الحريديم بكل ثمن.
هذه الخطوة من قِبل ليبرمان، زادت من حدة هجوم "الليكود" عليه، ولكن أيضاً من حملة "الليكود" المكثفة على الصوت الروسي، والتي كانت السبب الحقيقي وراء زيارة نتنياهو هذا الأسبوع إلى أوكرانيا، سعياً وراء الصوت الروسي، على غرار زيارة مشابهة قام بها خلال الانتخابات النيابية عام 1999 وشملت كلاً من جورجيا وأوكرانيا وروسيا بعد أن كان واضحاً أن الروس في إسرائيل سيصوّتون لصالح إيهود باراك.
حرب نتنياهو على الصوت الروسي تبدو، وفق غالبية الاستطلاعات ومحللي السياسة الإسرائيلية المختصين بالقطاع الروسي وأنماط التصويت لدى الروس، خاسرة، خصوصاً بعد اتفاق فائض الأصوات بين حزب ليبرمان وبين حزب الجنرال غانتس، بما عزز من قدرة ليبرمان على ضبط إيقاع المعركة الانتخابية الحالية في إسرائيل. ولعل ما يساعد ليبرمان في عملية ضبط إيقاع المعركة الانتخابية، هو سيل التصريحات الدينية لجهة دولة توراتية التي يطلقها وزير المواصلات عن حزب "البيت اليهودي" بتسليئيل سموطريتش، والتي تعزز لدى المهاجرين من أصول روسية، حجم الخطر الذي يتهددهم وأولادهم لجهة عدم الاعتراف بيهوديتهم، وحرية المعتقد لدى أكثر من أربعمائة ألف منهم لا تعترف الجهات الدينية الرسمية الإسرائيلية بيهوديتهم وتمنع زواجهم بمراسم دينية يهودية رسمية، في حال شكّل نتنياهو حكومته المقبلة بالتحالف مع أحزاب الحريديم.
أخيراً، لعله من المفيد الإشارة إلى أنه في موازاة الكاريكاتير الذي نشرته "يديعوت أحرونوت" الأسبوع الماضي، وتجاهل كلياً وجود العرب كلاعبين في المشهد الانتخابي الإسرائيلي، وقد يكون السبب وراء المقابلة مع أيمن عودة، فقد نشرت "هآرتس" هي الأخرى رسماً كاريكاتيرياً صوّرت فيه المعركة الانتخابية كمخيم استجمام يقفز فيه الجميع (بمن فيهم عودة وطيبي) إلى بركة ماء ويغنون ويرقصون، فيما يشكّل ليبرمان، في أقصى الرسم الـ"دي جي" الذي يحدد الموسيقى الراقصة، نوعها وإيقاعها ومدى صخبها من عدمه.