تشهد الانتخابات البرلمانية، التي تنطلق اليوم الخميس وتستمر حتى 26 مايو/أيار المقبل، منافسة شرسة على مقاعد البرلمان الأوروبي، الذي يُعتبر أهم هيئة تشريعية ديمقراطية جامعة لممثلي نحو 500 مليون مواطن في مختلف دول القارة العجوز. وقد برز التوافق عليه، رغم تعدد الخلفيات القومية للدول الأعضاء فيه، وحجم كتلته السكانية -الانتخابية الضخمة، في "السوق الأوروبية المشتركة" (قبل أن يصبح الاتحاد الأوروبي) منذ أول جلسة لهذا التجمّع في مدينة ستراسبورغ الفرنسية بحضور 142 عضواً في 19 مارس/آذار عام 1958. وقد أطلق عليه وقتها اسم "التجمع البرلماني الأوروبي"، قبل أن يصبح لاحقاً البرلمان الأوروبي في 30 مارس/آذار 1962. وتطور هذا التجمع الديمقراطي الكبير نحو "الديمقراطية المباشرة"، بانتخاب الشعوب لممثليها فيه، بعد قمة السوق الأوروبية في باريس عام 1974، لتبدأ هذه العملية بعد عام 1978، وينتهي العمل باختيار النواب في البرلمان الأوروبي من قبل البرلمانات المحلية، في الانتخابات الأولى لهذا البرلمان بين 7 و10 يونيو/حزيران 1979.
ويلخّص الخبير في الشؤون الأوروبية، أليسيو بيزانو، في حديث مع "العربي الجديد"، دور البرلمان الأوروبي حالياً، بالقول إنّه "أصبح المؤسسة الرئيسة التي تمثّل شعوب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فهو مذكور في المعاهدات وله الأسبقية على جميع السلطات الأوروبية الأخرى"، موضحاً أنّ "اختصاصاته تمتدّ بشكل مستمر، إذ لديه سلطة تشريعية حقيقية وقوة كبيرة في ما يتعلّق ببعض الملفات، فضلاً عن دور المراقبة الذي يضطلع به".
ويتبنى البرلمان الأوروبي مع المجلس الأوروبي، تقريباً جميع القوانين الأوروبية، وكذلك الميزانية السنوية التي تموّل سياسات الاتحاد. كما يجب عليه منح موافقته على أي اتفاق تجاري، ومراقبة المفاوضات التي تجريها المفوضية الأوروبية، التي يمارس عليها كذلك الرقابة السياسية (يرتبط تكوين المفوضية بنتائج انتخابات البرلمان الأوروبي). وينتخب البرلمان أيضاَ الرئيس وينظّم جلسات استماع للمرشحين لمناصب المفوضين.
ويعرض "العربي الجديد" أهم محطات وآليات عمل هذا البرلمان، الذي يشهد مزيداً من التوسّع في الصلاحيات والتطور "فوق الوطني" في الأداء، ويواجه هجمة من أحزاب اليمين بمختلف تياراته للهيمنة عليه، ما ينذر بتحولات جديدة قد تطرأ على تركيبته.
الأعداد والنسب
عدد أعضاء البرلمان الأوروبي المنتخبين يكون عادة 751 عضواً، وهو الحدّ الأقصى الممكن بموجب معاهدات الاتحاد الأوروبي. ولكن الخروج البريطاني من الاتحاد، متى ما تم، سيؤثّر نوعاً ما على هذا العدد، بخفضه إلى 705 أعضاء، مع زيادة مقاعد لبعض الدول، كون بريطانيا لديها 73 مقعداً. مع العلم أنّ المملكة المتحدة ستنظم انتخابات 2019 الأوروبية، وبالتالي أي تغييرات في نسب حصص الأعضاء ستحدّد من جديد في عام 2024، نظراً لأن الانتخابات تجرى كل خمس سنوات.
يشرح بيزانو التغييرات التي ستطرأ على تركيبة البرلمان بعد إتمام "بريكست" بالقول إنه "بالنظر إلى مشاركة المملكة المتحدة في انتخابات 2019، سيكون عدد أعضاء البرلمان الأوروبي المنتخبين في كل دولة عضو هو نفسه في عام 2014. ومع ذلك، فبعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعض المقاعد التي حصل عليها منتخبون من المملكة المتحدة سيتم توزيعها على بعض الدول الأعضاء، على أن يتم تخفيض العدد الإجمالي للمقاعد إلى 705". ويضيف أن "على الدول الأعضاء المعنية توفير مخصصات لهذه المقاعد في انتخابات هذا العام، رغم عدم اليقين بشأن متى سيكون هؤلاء الأعضاء قادرين على تحمل مسؤولياتهم".
وبحسب نظام البرلمان، فإنّ عدد ممثلي الدول مرتبط بعدد سكانها. فألمانيا لديها 96 عضواً؛ وهو أعلى رقم يمكن للدول الوصول إليه، مقابل ستة مقاعد هو الرقم الأدنى المخصص للدول الصغيرة، فإنّ الدنمارك لديها 13 عضواً، وسيرتفع هذا العدد هذا العام إلى 14، بسبب الاستعداد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على أن يشغل المنتخب الأخير مقعده بعد إتمام "بريكست". وستستفيد إسبانيا وفرنسا من خمسة أعضاء جدد، بينما ستخصص بقية المقاعد المخفضة من 751 مقعداً، للدول الأعضاء الجدد مستقبلاً، في ظلّ توسّع الاتحاد الأوروبي نحو شرق القارة.
وتختلف مواعيد انتخابات العام الحالي 2019 من دولة إلى أخرى، لكنها بالعموم ستحصل في أغلب الدول بين 23 و26 من مايو/أيار الحالي. ولا يجوز للدول الأعضاء نشر نتائج الانتخابات سوى بعد إغلاق مكاتب الاقتراع في الدولة العضو التي يكون ناخبوها آخر من يصوّتون يوم الأحد في 26 مايو. وقد توافق الأوروبيون على أن تكون الانتخابات كل خمسة أعوام، واستعاضوا عن نظام "اختيار" برلماناتهم الوطنية لممثلي دولهم في البرلمان الأوروبي بنظام الانتخابات المباشرة للمرة الأولى في عام 1979.
من يحق له المشاركة؟
تختلف من دولة إلى أخرى أعمار من يحق لهم المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي، تصويتاً وترشّحاً وترشيحاً. ففي النمسا واليونان على سبيل المثال، يحقّ لمن بلغ 16 و17 عاماً التصويت، بينما في إيطاليا يتطلب الأمر أن يكون الشخص في عمر الـ25، وفي رومانيا 23 وسلوفاكيا 21 والدنمارك 18 عاماً. وتعتبر بعض الدول المشاركة في هذه الانتخابات إلزامية، كبلجيكا وقبرص واليونان ولوكسمبورغ (واجب لا مجرد حق).
وعلى صعيد الترشّح، فإنّ ذلك يتم في دول كجمهورية التشيك وألمانيا وهولندا والدنمارك والسويد، على قوائم الأحزاب والمنظمات السياسية، في حين تمنح دول أخرى مواطنيها حقّ الترشّح الفردي شرط الحصول على دعم شعبي بجمع أعداد تواقيع معينة، وبعضها يطلب من المرشح تقديم وديعة مالية. وفي هذا الإطار، يقول بيزانو إنه "يجب احترام بعض الإجراءات المشتركة التي ينصّ عليها قانون الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك التمثيل النسبي. ويمكن للناخبين عادة التصويت لحزب أو مرشّح سياسي معين، أو مزيج من الاثنين"، مضيفاً أنه "إذا كان بإمكان الناخبين في بعض الدول الأعضاء التصويت فقط لقائمة واحدة دون التمكّن من تغيير ترتيب المرشحين، فيمكنهم في دول أخرى اختيار مرشّح واحد أو أكثر". وفي حين أنّ نظام الدائرة الانتخابية الواحدة هو المعمول به في غالبية الدول الأعضاء، إلا أنّ بعض الدول قسمت أراضيها إلى دوائر متعدّدة، مثل بلجيكا وإيرلندا وإيطاليا وبولندا وبريطانيا.
نسبة الحسم
تحدد القواعد الجديدة للبرلمان الأوروبي، التي تم تبنيها في عام 2018، عتبة إلزامية أو "نسبة الحسم" (النسبة المئوية من أعداد المصوتين في كل دولة لدخول البرلمان) والتي تختلف من دولة إلى أخرى. إذ تحدد الدنمارك نسبة الحسم بـ2 في المائة على المرشحين لدخول برلمانها الوطني، فإنها لا تحدد في المقابل نسبة حسم لدخول البرلمان الأوروبي. أمّا في دول مثل فرنسا (بحسب الدائرة الانتخابية) وكرواتيا والتشيك ورومانيا وليتوانيا والمجر وبولندا، فتحدد نسبة الحسم بـ5 في المائة. في حين أنّ إيطاليا والنمسا والسويد تحددها بنسبة 4 في المائة، واليونان بـ3 في المائة وقبرص بنحو 2 في المائة.
ويوضح بيزانو أنه "على المستوى الوطني، لا يمكن أن تكون هذه العتبة أعلى من 5 في المائة من الأصوات التي تم الإدلاء بها بشكل صحيح. كما يجب على الدول الأعضاء التي تستخدم نظام القائمة، أن تنصّ على تحديد عتبة لتخصيص المقاعد في الدوائر الانتخابية التي تضم أكثر من 35 مقعداً، مع ضرورة ألا تقلّ هذه العتبة عن 2 في المائة ولا تزيد عن 5 في المائة من الأصوات الصحيحة المدلى بها في الدائرة المعنية، بما في ذلك الدولة التي تعتمد نظام الدائرة الانتخابية الواحدة". ويلفت إلى أنّ "عدد النواب الممنوح لكل بلد، يأخذ بعين الاعتبار نسبة السكان، مع ضمان الحد الأدنى من الممثلين للدول الصغرى. فألمانيا لديها 96 مقعداً، بينما يصل عدد مقاعد مالطا إلى 6".
إلى ذلك، تلقى على عاتق البرلمانات المحلية (الوطنية) في بعض الدول، مهمة التأكيد والتصديق على نتائج الانتخابات إلى البرلمان الأوروبي، كالدنمارك ولوكسمبورغ، بينما توكل المهمة في بلدان أخرى إلى "لجان الانتخابات المركزية"، كما في إسبانيا. وفي ألمانيا تعلن النتائج النهائية من قبل لجنة الانتخابات بعد يوم من انتهاء التصويت. أمّا في النمسا وبلجيكا والتشيك وإستونيا وفنلندا وإيطاليا وسلوفينيا وأيرلندا وبريطانيا، فيحقّ للمحاكم التحقّق من النتائج، كما يسري ذلك على ألمانيا في حال التنازع على النتائج. وبالنسبة للتمويل والحملات الانتخابية والاستطلاعات، فإنّ ما يسري على الانتخابات البرلمانية الوطنية يسري على استحقاق البرلماني الأوروبي.
وتختلف نسبة المشاركة في الانتخابات الأوروبية بين دولة وأخرى، وقد سجّلت انتخابات الدورة السابقة في 2014، في المتوسط، مشاركة نحو 42.6 في المائة، ما خلق سجالاً وانتقادات كثيرة بسبب انخفاض هذه النسبة. وبينما كانت نسبة الإقبال أكثر من 89 في المائة في بلجيكا (بسبب إلزامية التصويت)، فإنّ 56 في المائة من الدنماركيين قرروا الاقتراع، فيما لم تتجاوز النسبة في سلوفاكيا 13 في المائة. ومقارنة بالانتخابات الأولى، (410 أعضاء) في يونيو/حزيران 1979، حين شارك في المتوسّط 61 في المائة من الأوروبيين، فإنّ السنوات الأخيرة بدأت تشهد عزوفاً أوروبياً عن المشاركة، خصوصاً بين فئة الشباب، فيما الحماسة تتزايد لدى أنصار أقصى اليمين المتشدّد كلما تراجعت نسب إقبال ناخبي الأحزاب التقليدية، ممن يسمون "ناخبي الكنبة".
وسبق الانتخابات المرتقبة ما يشبه النزاع على كل صوت، فقد حاول اليسار في أكثر من دولة حثّ الناس من مختلف الخلفيات العرقية من الأوروبيين على المشاركة. وفي هذا الإطار، يقول المرشح البارز على قائمة حزب "اللائحة الموحدة" اليساري الدنماركي، نيكولاي فيلومسن، إنّ "مشاركة المسلمين الدنماركيين وسط هذا السجال المتطرف، تعدّ مهمة كبيرة لإثبات حقهم في المواطنة وللتصدّي لهذه الموجة العنصرية، وينطبق ذلك على البرلمان الأوروبي وانتخاباتنا البرلمانية يوم 5 يونيو المقبل".
صلاحيات لجان وتشريعات
التوافق الأوروبي، بين مختلف الدول، القديمة والحديثة في عضوية الاتحاد الأوروبي، أثمر عن صلاحيات كبيرة للبرلمان، تشريعية واقتصادية، وخصوصاً لجهة اعتماد الموازنة المشتركة، وهو ما دفع إلى منح الشعوب حقّ الاقتراع المباشر لاختيار ممثليها، لما لصلاحيات البرلمان من تأثير مباشر عليها.
ويضمّ البرلمان نحو 20 لجنة دائمة ولجنتين فرعيتين، وكل لجنة تضم ما بين 24 و76 عضواً، وهي تعكس التكوين السياسي في البرلمان، بما يعني أنه كلما كان الحزب أكبر كلما كان تمثيله في اللجان أهم. وعليه، يبرز تنافس على تشكيل تكتلات برلمانية لدى مختلف التيارات السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لزيادة النفوذ في اللجان التي تتقدّم بالمقترحات المتبناة بالتصويت.
وتبرز في البرلمان الأوروبي، خصوصاً هذه الأيام، لجان البيئة والصحة العامة وسلامة الأغذية، واللجنة المعنية بالتجارة الدولية، ولجنة حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، بالإضافة إلى عدد آخر من اللجان المهمة للدول الأعضاء. وينتهج المشرعون الأوروبيون العمل وفق ما يسمى "الإجراء التشريعي العادي"، إذ تقدّم المفوضية الأوروبية اقتراحاً لاعتماده قانوناً عبر الدفع به إلى البرلمان والمجلس الوزاري الأوروبي؛ وهو من حاملي حقائب وزارية من 28 دولة. ولكي يُعتمد التشريع، يجب أن تقبل به أغلبية المجلس الوزاري والبرلمان الأوروبي.
وقد توسّعت صلاحيات البرلمان الأوروبي منذ معاهدة بروكسل في 22 يوليو/تموز 1975. ومنذ اتفاقية ماستريخت عام 1991، حين مُنح البرلمان مزيداً من الصلاحيات التشريعية في المجال القانوني والقضائي.
وبموجب اتفاقية أمستردام عام 1997، ترسّخ دور البرلمان الأوروبي سلطةً عليا في التشريع. فقد شملت الاتفاقية من بين بنودها الأساسية قضايا حقوق الإنسان والتعاون الأوروبي حول الحدود والتأشيرات واللجوء والهجرة والحقوق المدنية، والتعاون المتجاوز للحدود الوطنية في مجالات البيئة والعمل، والانفتاح والشفافية بما يتعلّق بقرارات المؤسسة البرلمانية، والتعاون الأوثق مع المفوضية الأوربية. ثمّ جاء بعد ذلك التعاون الأمني والعدلي والزراعي، وغيرها من القضايا التي صار للبرلمان المشترك دور حاسم فيها. ويشارك أعضاء البرلمان الأوروبي في دورات عامة تعقد بالتناوب في كل من ستراسبورغ بفرنسا وبروكسل ببلجيكا، لمدة أربعة أيام في الشهر لمناقشة مشاريع القوانين والتصويت عليها. بينما يظلون في العاصمة الأوروبية طيلة الوقت تقريباً، للعمل في اللجان البرلمانية التي تسهر على إعداد القوانين والملتمسات والقرارات. وتطبق عقوبات مالية في حق النواب عند تفويت أيام التصويت.
ليسوا بالضرورة مؤيدين لوحدة أوروبا
لا يتجمع النواب في مجموعات وطنية، ولكن في مجموعات سياسية تضم نواباً من دول أوروبية مختلفة، وفقاً للحساسية السياسية. فهناك الاشتراكيون، واليمينيون المحافظون، والليبراليون، والخضر، واليسار الراديكالي، واليمين المتطرف. ولتشكيل مجموعة يفترض تجمّع 20 نائباً على الأقل من ستّ دول مختلفة.
كما أنّ أعضاء البرلمان الأوروبي ليسوا بالضرورة من مؤيدي "الاتحاد الأوروبي". فهناك قوائم لأحزاب ومنظمات عديدة معارضة لوحدة أوروبا ولتدخلات بروكسل والمشرعين الأوروبيين في الشؤون الوطنية. ولعلّ أكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك، وجود مرشحين في اسكندنافيا في "الحركة الشعبية" المطالبة بالخروج من الاتحاد، وهي تختلف عن المنظمات والأحزاب الشعبوية (أبرز أمثلتها حزب بريكست بزعامة البريطاني نايجل فراج، الذي تعطيه الاستطلاعات الأخيرة تفوقاً على الأحزاب التقليدية)، بدعوتها إلى حلّ الاتحاد الأوروبي باعتباره "نادياً مغلقاً"، والاستعاضة عنه بتعاون عالمي أوسع من القارة. كذلك، يترشّح على قوائم أحزاب اليسار واليمين من ينتقدون كل المشروع الأوروبي، ويسعون فيه، بتحالفات بين زملاء الاتجاه الواحد أو المتقارب في دول القارة تحت سقف البرلمان الأوروبي، إلى التأثير على قرارات لجانه المتعددة.
(غداً: أخطر التحديات الوجودية للاتحاد الأوروبي)