ويعود سبب تعقيد النظام الأميركي إلى محاولة حفظ التوازن بين الولايات قدر الإمكان، ونسب السكان، فاختيار الرئيس لا يأتي عن طريق التصويت الشعبي المباشر، وإنما عن طريق التصويت للمندوبين في المجمع الانتخابي، وهم من يقومون باختيار الرئيس. والفائز في ولاية ما ينال كل نقاطها، فلا مجال للمرشحين من خارج الحزبين لإحداث اختراقات كبرى، إذ يملك الحزبان آلة انتخابية ضخمة وراسخة، تطورت خلال ما يقارب القرنين من الزمن. إلا أن للمستقلين تأثيرهم الحاسم أحياناً في نتائج الانتخابات الرئاسية. على سبيل المثال، تُفسر عادة خسارة المرشح الديمقراطي ألبرت آل غور في انتخابات عام 2000، أمام جورج بوش الابن، كنتيجة لتأثير المرشح عن حزب الخضر، رجل الأعمال ذو الأصول العربية، رالف نادر، الذي نال 2.74 في المائة من مجمل الأصوات (ما يعادل 2883443 صوتاً). وعلى الرغم من حصول آل غور على أصوات فردية تفوق تلك التي نالها بوش الابن بقرابة 500 ألف صوت، لكنه خسر بسبب نظام المجمع الانتخابي، بعد إعادة فرز الأصوات في ولاية فلوريدا، والتي حُسمت لصالح بوش، بفارق ضئيل.
ويبدو أن الناخب الأميركي اليوم، في حال لا يحسد عليها، أمام الخيارات التي وضعها الحزبان، الجمهوري والديمقراطي، أمامه. فهيلاري كلينتون، تمثل المؤسسة التقليدية للحزب الديمقراطي، وللمؤسسة السياسية الأميركية ككل، أو "الإستابلشمنت" عموماً. أي أن انتخابها سيكون تعبيراً عن الرضا على النظام الأميركي التقليدي. وهذا يبدو بعيداً، في ظل انتخابات شهدت ظاهرة جديدة، تمثلت في صعود مرشحين غير ممثلين للمؤسسات الحزبية التقليدية وبيروقراطيتها ولوبياتها. فكل من دونالد ترامب، والمرشح الذي نافسه طويلاً داخل الحزب الجمهوري، تيد كروز، غير محسوبين على المؤسسة التقليدية للحزب الجمهوري، على عكس ماركو روبيو مثلاً، ابن مؤسسة الحزب التقليدية. كما أن السيناتور الديمقراطي، بيرني ساندرز، والذي نافس كلينتون طويلاً داخل الحزب، يعد أقرب لليسار (يعرّف نفسه باعتباره اشتراكياً) أكثر من كونه ممثلاً للمؤسسة التقليدية للحزب الديمقراطي، والسياسة الأميركية بشكل عام.
هذا المزاج الأميركي العام، بوجود مرشحين داخل الأحزاب، من خارج المؤسسات الحزبية التقليدية، والذي توج بترشح دونالد ترامب ممثلاً للحزب الجمهوري، يفسح المجال أمام مفاجآت، على الرغم من شعور المؤسسة التقليدية في الحزب الجمهوري، والتي يعد السيناتور بول رايان أبرز ممثليها، أن الانتخابات محسومة سلفاً لصالح الديمقراطيين، من خلال تأكيده التوقف عن دعم ترامب، وأنه "سيحاول أن يحافظ على الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب"، على اعتبار أن معركة ترامب خاسرة لا محالة.
هذه الأجواء تضع العديد من المعوقات أمام المرشحين الرئيسيين في الانتخابات. فمن الصعوبة القطع بأن أصوات أنصار ساندرز ستذهب تلقائياً إلى كلينتون، رغم دعم ساندرز لها. كما يبدو واضحاً أن أنصار الحزب الجمهوري التقليديين، من جمهور بول رايان وجون ماكين مثلاً، لن يقوموا بالتصويت لترامب، الذي لا يمثل "القيم الجمهورية" في نظرهم. وهناك ثلاثة مرشحين مثيرين للانتباه في هذه الدورة، سيستفيدون من هذه الفوضى، إن صح الوصف، وهم مرشح الحزب الليبرتاري، غاري جونسون، ومرشحة حزب الخضر، جيل ستاين، والمرشح المحافظ "الجمهوري" المستقل، إيفان ماكملين، والذي من المترقب أن يقوم باختراق انتخابي تاريخي الشهر المقبل.
برامج متباينة عن الحزبين
يقول مرشح الحزب الليبرتاري، غاري جونسون، إنه يمثل "أفضل ما في الحزبين، الجمهوري والديمقراطي"، فهو يعتبر نفسه أكثر انفتاحاً في القضايا الاجتماعية من الديمقراطيين، وأكثر محافظة في القضايا الاقتصادية، من الجمهوريين. ويتبنى جونسون جملة من المواقف والسياسات المتمايزة عن الرؤية الأميركية السياسية التقليدية، فهو متطرف جداً في رفض تدخلات مؤسسات الدولة في الاقتصاد والمجتمع، إلى حد المطالبة بإلغاء الحد الأدنى للأجور، وإلغاء ضريبة الدخل والضرائب على الشركات، والاكتفاء بضريبة استهلاكية. كما أنه يطرح فكرة إلغاء الكثير من القطاعات الحكومية، حتى أنه لا يرى مشكلة في خصخصة القطاع الأمني. من ناحية أخرى، يقف جونسون ضد عقوبة الإعدام، وضد ترحيل المهاجرين، ومع ما يسميه "إنهاء الحرب على المخدرات"، أي مع تقنين استخدام المخدرات. كما أنه يدعم حق المرأة في الإجهاض، وحقوق المثليين والمتحولين جنسياً. أما في السياسة الخارجية، فيتبنى جونسون رؤية ضد التدخلات الأميركية في الخارج. وبسبب هذه الخطط والمواقف، يمتلك جونسون حضوراً وتأثيراً مهماً لدى الأميركيين الشباب، ويتشارك في هذا مع السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز. أي بكلمات أخرى، جونسون يستميل الشباب الذين يقفون جذرياً ضد ترامب، لكنهم لا يستسيغون التصويت لمرشحة تقليدية، مثل هيلاري كلينتون، بسبب تمثيلها النظام الأميركي التقليدي، الذي يعارضونه.
أما مرشحة حزب الخضر، جيل ستاين، فلا تذهب بعيداً عن غاري جونسون، في اختلافهما مع المؤسسة التقليدية الأميركية، لكن بشكل مغاير لرؤية الحزب الليبرتاري. وترى ستاين أن مشكلة الانتخابات الأميركية الحالية هي في كون هيلاري وترامب غير محبوبين و"ليسا أهلاً للثقة"، وأن داعميهما "يصوتون لهما بسبب رفضهم وكراهيتهم للمرشح الآخر، لا حباً بمن سيصوتون له". وتركز ستاين على قضايا التغيّر المناخي، والذي يعد الحجر الأساس في سياسات حزب الخضر، التي تقوم على التفكير في مستقبل "الأجيال المقبلة" من خلال مواجهة التغير المناخي، وطرح خطط بديلة لإنتاج الطاقة، وتوفير التعليم والوظائف وفق سياسات لا تضر بالبيئة، ومحاولة إدخال أكبر قدر من الشباب في المجال السياسي وإشراكهم في القرارات التي ستحدد مستقبلهم. وبخلاف ترامب وكلينتون، تتبنى ستاين رؤية معارضة لإسرائيل، بشكل ملفت في السياق الأميركي، وتصفها بأنها "قوة الاحتلال التي تواصل انتهاك القوانين الدولية". وتدعو إلى تغيير سياسات الولايات المتحدة مع حلفائها في الشرق الأوسط من خلال إيقاف الدعم عن الدول التي تنتهك القانون الدولي، وحقوق الإنسان، وتجميد مبيعات السلاح، والدعم السياسي. وفي الإطار الانتخابي، لا تذهب زعيمة حزب الخضر بعيداً عن غاري جونسون، في كونهما يستميلان الشباب، وإن كانت شعبيتها أقل من جونسون، بحسب استطلاعات الرأي. لكن بهذا المعنى، يكون مرشحا الحزب الليبرتاري وحزب الخضر، عبئاً على الديمقراطيين، وأي أصوات يحصلون عليها، ستعزز من تقدم ترامب في الانتخابات، لذا يتهمان أحياناً بأنهما يترشحان لـ"تخريب" الانتخابات، وليس لتحسين الأوضاع السياسية في البلاد، وهو الاتهام الذي ترد عليه ستاين بقولها: "أصواتنا ليست حقاً مسبقاً للسياسيين، عليهم أن يستحقوا نيلها".
مفاجأة ولاية يوتا
على الجانب الآخر، حيث المحافظين، لا يوجد مرشح قوي، لكن هناك ظاهرة. فمن المتوقع أن يحقق إيفان ماكملين اختراقاً انتخابياً تاريخياً، إذا فاز في ولاية يوتا، كما تظهر استطلاعات الرأي. ويصف ماكملين نفسه بأنه "المرشح المحافظ الوحيد في هذا السباق الانتخابي". ويعتبر نفسه من المخلصين للمبادئ المؤسسة للولايات المتحدة وهي أن "كل الرجال والنساء خلقوا متساوين، ويمتلكون الحق بالحياة والحرية والسعادة". ويقول: "لا أحد يطرح هذه المبادئ".
ماكملين، الجمهوري المحافظ، سيحتضن أصوات الجمهوريين الناقمين على ترامب، في أقل من 20 ولاية أميركية. وتظهر استطلاعات رأي احتمال فوزه في ولاية يوتا، والتي على الرغم من صغر حجمها، إذ يمثلها 6 مندوبين في المجمع الانتخابي من أصل 538 مندوباً في كل الولايات الأميركية، إلا أن خسارة الجمهوريين لها ستعتبر سابقة تاريخية. ويتطلب أن يحصل المرشح على 270 مندوباً للفوز بالرئاسة.
وأظهر استطلاع للرأي، أجرته "كلية إمرسون"، ونشر أخيراً، أن رجل الأعمال الذي سبق له أن عمل لصالح وكالة الاستخبارات الأميركية "سي اي ايه"، إيفان ماكملين، نال دعم 31 في المائة من المستطلعين، في حين نال ترامب 27 في المائة وكلينتون 24 في المائة في الولاية التي لم يخسرها الجمهوريون منذ 1964. واتهم ماكملين قادة الحزب الجمهوري بأنهم بترشيحهم ترامب "قدموا مصالح الحزب الضيقة على المبادئ المحافظة للحزب الجمهوري"، واصفاً ترامب بأنه "لا علاقة له بالحزب الجمهوري"، الموقف الذي يتقاسمه الكثير من الجمهوريين التقليديين اليوم. كما وصف ترامب بأنه "مرشح سخيف وفظيع"، وأنه "يهزم نفسه"، في إشارة إلى فضائحه المتواصلة.
استطلاعات رأي "مخيفة"
وبحسب لغة الأرقام، أظهرت بعض استطلاعات الرأي، أن شعبية جونسون وستاين قد تؤثر فعلاً في سير انتخابات 8 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في حين تظهر استطلاعات أخرى أن كلينتون متقدمة، على الرغم من إمكانية التصويت بأرقام عالية للمرشحين من خارج الحزبين. ففي حين أظهر استطلاع للرأي قامت به قناة "سي إن إن" مع مؤسسة "أو أر سي"، قبل أيام، تقدم كلينتون بـ49 في المائة في مقابل نيل ترامب 44 في المائة، وجونسون 3 في المائة وستاين 2 في المائة، أظهر استطلاع آخر، لموقع "تقارير راسموسن"، تقدم ترامب بـ43 في المائة في مقابل حصول كلينتون على 41 في المائة، وجونسون 5 في المائة وستاين 3 في المائة. أما استطلاع "أي بي دي" و"تي أي بي بي" فقد أظهر تساوي ترامب وكلينتون عند 41 في المائة، مقابل حصول جونسون على 8 في المائة وستاين على 4 في المائة. وكان استطلاع رأي أجرته "سي بي أس"، الأحد الماضي، أظهر تقدم ترامب بـ46 في المائة مقابل 43 في المائة لكلينتون و5 في المائة لجونسون وواحد في المائة لستاين. تذبذب استطلاعات الرأي حيال شعبية المرشحين من خارج الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يترك الباب موارباً للمفاجآت في 8 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. لن تكون المفاجأة بفوز مرشح من خارج الحزبين، فهذا مستحيل، لكن ربما ستكون المفاجأة فوز دونالد ترامب، بسبب عوامل مختلفة، قد يكون أحدها تأثير المرشحين من خارج الحزبين على سير العملية الانتخابية.