23 يناير 2016
الاعتدال المتطرّف
كلمة التطرّف بالعربية ترجمة غير موفقة لمرادفتها الإنجليزية، والسبب أن الكلمة الإنجليزية ما زالت تحمل، في طياتها، معاني إيجابية، بعكس نظيرتها العربية. في اللغة الإنجليزية، التفكير الراديكالي (المتطرف معجمياً) تفكير يدعو إلى المساءلة والنقد وطرح البدائل التي ترمي إلى السير بالمجتمع والفكر إلى الأمام. في زمن ليس بعيداً، كان الباحث أو المفكر يحتفي بنفسه عندما يوصف، بالإنجليزية، بالراديكالية في التفكير، الأمر الذي يعني أنه انعتق من إسار المألوف إلى آفاقٍ أرحب من التجريب والتمحيص والتنظير، بهدف التجديد المعرفي. على الرغم من استمرار حضور هذه المعاني، وظلالها بالإنجليزية، إلا أن آفاقها بدأت تتآكل بضراوة أمام معانٍ محدثة، ارتبطت بالتطرف السياسي والديني الذي التصق بالمخيلة الغربية والعربية، في السنوات الأخيرة، بممارسات الإسلام السياسي وفكره، في مآلاتهما القاعدية والداعشية الذي يدعو إلى العنف وسيلةً لحل النزاعات. في هذا السياق، يعتبر التطرّف رذيلة أخلاقيةً، لا فضيلة فكرية. ويرى المراقب لمسيرة هذا الفكر صيرورة التطرّف التي تسير باتجاه تطرفٍ متنامٍ يفعل فعلة نار لاهبة، تأكل الأخضر واليابس، مهللة بزيف "عليّ وعلى أعدائي يا رب". للتطرف منطقٌ يطالب بمزيد من التطرّف، للوصول إلى درجة من الصفاء التطرفي الذي لن يتلاشى إلا عندما يبتلع التطرف نفسه. بمعنى آخر، سوس التطرف ينخر فيه كلما حاول المتطرفون تصفية التطرّف من الشوائب العالقة به في نظرهم.
ما يهمني هنا ليس هذا النوع من التطرّف في طريق التهلكة، بل التطرّف في الاعتدال الذي يمسخ الأمور باسم قيمة مجتمعية (الاعتدال) تؤدي المغالاة فيها إلى ترويج سردياتٍ تاريخيةٍ وأخلاقيةٍ موهومةٍ، مؤداها طمس الحقيقة والتنازل عن الحق. هذا التطرف مرشح للانقراض أيضاً لأنه يخالف نواميس المجتمع الأخلاقية التي يمثل إحقاق الحق فيها عموداً فِقَرياً لا تستقيم الأمور بدونه.
قبل سنوات، طلعت علينا مجموعة كتاب عرب، في الغرب وخارجه، ينادون باسم الاعتدال والبحث عن تسويغٍ لسلام يؤمنون به تحت مقولة مفادها بأن لليهود الحق في امتلاك أرض فلسطين، لأن الله وعدهم بها، حيث قالوا إن الخروج عن هذا الوعد تحدٍّ لإرادة الله عند المؤمنين به. نسي هؤلاء، في اعتدالهم المتطرف، الفرق بين اليهودي والصهيوني، وأن هذا الأخير الذي بنى دولة إسرائيل ينحدر من سلالةٍ أيديولوجيةٍ، تنفي وجود الإله، لكنها تقبل وعده بني إسرائيل في أن فلسطين حق لهم، متخذين من هذا الوعد مِن إلهٍ رفضوه ركيزةً تسوغ لهم اغتصاب الأرض وطمس الحقوق وتهجير أصحاب الدار. تعرفت على بعض هؤلاء من المعتدلين بتطرف، وحاججتهم إن كان الله اشترط تحقيق وعده بدولةٍ تسلب حق الآخرين، وتطردهم من ديارهم، وتنكل بهم. بغض النظر عن مسار النقاش أخذاً ورداً، فإن اعتدال هؤلاء هو اعتدال متطرف، يتنازل عن الحق سعياً وراء سلْم يكرس مبادئ السطوة والقوة بغير حق، بما لا يتماشى مع تصوراتنا المحقة بأن الله عادلٌ لا يقبل الظلم.
ونرى هذا الموقف الاعتدالي المتطرف يطالعنا، أخيراً، على لسان من يرون أن لا خصوصية
للمسجد الأقصى في الحديث عن سلامٍ يجنحون إليه، هؤلاء الذين يقولون إنها ليست المرة الأولى في التاريخ التي يكون فيها المسجد الأقصى في يد غير المسلمين، فما الجديد الذي يجعل الأقصى حجر عثرة في تحقيق السلام؟ عندما تسمع دعاة هذا الرأي يتنطعون بهذه المقولة، ليس من باب الخيانة، بل من باب الاعتدال، فإنك تدرك أن الاعتدال انقلب رأساً على عقب، في تنازله عن الحق وعن مقاومة الظلم والاحتلال والعدوان. هذا نزرٌ يسير وفصل "ما بعد أوسلوي" من مقولات المطبِّعين مع من يمارس الاحتلال باسم الواقعية السياسية.
وهناك مثال آخر من الاعتدال المتطرف، عايشت بعض مظاهره في الغرب. لا شك أن الحوار بين الأديان أمر مهم في تحقيق السلم الاجتماعي، مع أن الذين يتحاورون هم أصحاب الأديان، لا الأديان نفسها. هذا التفريق بين الأديان وأصحابها على غايةٍ من الأهمية، لأن المتحاورين كثيراً ما يختزلون الحوار، باسم معتقداتهم، باعتدالٍ متطرّفٍ يركز على قضايا ويُسقط قضايا أخرى، لا ترضى عنها هذه المعتقدات. في بعض جلسات الحوار هذه، يُعتبر الحديث عن الاحتلال منغصاً بين المتحاورين، لا بد من استبعاده، حتى يتم الحوار على أفضل وجهٍ، كما يرون. ويقبل الطرف الآخر هذه التفاهمات بذريعةٍ أو بأخرى، فإذا بالحق لا يُحق. يقولون لك دعنا نتفاهم على بعض الأوليات، أولاً، لننسف جسور الشك بيننا، لكنك سرعان ما تجد أن الأولويات هي نهاية المطاف، مطاف مشروط باعتدال يورّطك بالقبول بما يجب أن لا تقبل به، إن كنت تلتزم بقضيةٍ الحق فيها واضح.
أذكر كيف عرض عليّ أحد المعتدلين المتطرفين يوماً أن يتوسط بيني وبين آخر، لتبديد سوء تفاهم حصل بيننا، ليس إلا لأني قلت إن قيمة الحق لا يمكن أن يُساوم عليها تحقيقاً لاعتدالٍ متطرفٍ وسِلْم يتماشى مع هذا الاعتدال، تاركاً الظلم عالقاً بمن كوَتهم نار هذا الظلم. هكذا، عندما يصير الاعتدال تطرفاً، يصبح الاعتدال انبطاحاً فيمسي الاعتدال، نفسه، ضحية.
ما يهمني هنا ليس هذا النوع من التطرّف في طريق التهلكة، بل التطرّف في الاعتدال الذي يمسخ الأمور باسم قيمة مجتمعية (الاعتدال) تؤدي المغالاة فيها إلى ترويج سردياتٍ تاريخيةٍ وأخلاقيةٍ موهومةٍ، مؤداها طمس الحقيقة والتنازل عن الحق. هذا التطرف مرشح للانقراض أيضاً لأنه يخالف نواميس المجتمع الأخلاقية التي يمثل إحقاق الحق فيها عموداً فِقَرياً لا تستقيم الأمور بدونه.
قبل سنوات، طلعت علينا مجموعة كتاب عرب، في الغرب وخارجه، ينادون باسم الاعتدال والبحث عن تسويغٍ لسلام يؤمنون به تحت مقولة مفادها بأن لليهود الحق في امتلاك أرض فلسطين، لأن الله وعدهم بها، حيث قالوا إن الخروج عن هذا الوعد تحدٍّ لإرادة الله عند المؤمنين به. نسي هؤلاء، في اعتدالهم المتطرف، الفرق بين اليهودي والصهيوني، وأن هذا الأخير الذي بنى دولة إسرائيل ينحدر من سلالةٍ أيديولوجيةٍ، تنفي وجود الإله، لكنها تقبل وعده بني إسرائيل في أن فلسطين حق لهم، متخذين من هذا الوعد مِن إلهٍ رفضوه ركيزةً تسوغ لهم اغتصاب الأرض وطمس الحقوق وتهجير أصحاب الدار. تعرفت على بعض هؤلاء من المعتدلين بتطرف، وحاججتهم إن كان الله اشترط تحقيق وعده بدولةٍ تسلب حق الآخرين، وتطردهم من ديارهم، وتنكل بهم. بغض النظر عن مسار النقاش أخذاً ورداً، فإن اعتدال هؤلاء هو اعتدال متطرف، يتنازل عن الحق سعياً وراء سلْم يكرس مبادئ السطوة والقوة بغير حق، بما لا يتماشى مع تصوراتنا المحقة بأن الله عادلٌ لا يقبل الظلم.
ونرى هذا الموقف الاعتدالي المتطرف يطالعنا، أخيراً، على لسان من يرون أن لا خصوصية
وهناك مثال آخر من الاعتدال المتطرف، عايشت بعض مظاهره في الغرب. لا شك أن الحوار بين الأديان أمر مهم في تحقيق السلم الاجتماعي، مع أن الذين يتحاورون هم أصحاب الأديان، لا الأديان نفسها. هذا التفريق بين الأديان وأصحابها على غايةٍ من الأهمية، لأن المتحاورين كثيراً ما يختزلون الحوار، باسم معتقداتهم، باعتدالٍ متطرّفٍ يركز على قضايا ويُسقط قضايا أخرى، لا ترضى عنها هذه المعتقدات. في بعض جلسات الحوار هذه، يُعتبر الحديث عن الاحتلال منغصاً بين المتحاورين، لا بد من استبعاده، حتى يتم الحوار على أفضل وجهٍ، كما يرون. ويقبل الطرف الآخر هذه التفاهمات بذريعةٍ أو بأخرى، فإذا بالحق لا يُحق. يقولون لك دعنا نتفاهم على بعض الأوليات، أولاً، لننسف جسور الشك بيننا، لكنك سرعان ما تجد أن الأولويات هي نهاية المطاف، مطاف مشروط باعتدال يورّطك بالقبول بما يجب أن لا تقبل به، إن كنت تلتزم بقضيةٍ الحق فيها واضح.
أذكر كيف عرض عليّ أحد المعتدلين المتطرفين يوماً أن يتوسط بيني وبين آخر، لتبديد سوء تفاهم حصل بيننا، ليس إلا لأني قلت إن قيمة الحق لا يمكن أن يُساوم عليها تحقيقاً لاعتدالٍ متطرفٍ وسِلْم يتماشى مع هذا الاعتدال، تاركاً الظلم عالقاً بمن كوَتهم نار هذا الظلم. هكذا، عندما يصير الاعتدال تطرفاً، يصبح الاعتدال انبطاحاً فيمسي الاعتدال، نفسه، ضحية.