27 أكتوبر 2024
الاستثناء المغربي بين المطرقة والسندان
يعيش المغرب، منذ الربيع العربي، على نغمات ما يسمى إلى الآن الاستثناء المغربي القائم على معادلة الإصلاح في ظل الاستقرار، وهي معادلة سمحت للمغرب بتجاوز الربيع العربي بفضل مرتكزات ثلاثة: الاستجابة الملكية السريعة للمطالب، وإن كانت بقدر سقف المطالب الذي لم يطالب بتغيير النظام، بل بالقيام بالإصلاح. الموقف المعتدل لأقوى الأحزاب المغربية، العدالة والتنمية. وقد أدّى الأمران إلى دستورٍ وسط، لا هو يفتح باب الديمقراطية على مصراعيه، ولا هو يكرّس التحكّم والاستبداد. دستور سمح لحزب العدالة والتنمية بالوصول إلى سدة رئاسة الحكومة، بفضل شفافية العملية الانتخابية واحترام نتائج الاقتراع، وهذا يعني وجود إرادة ملكية وراء هذا، إذ تتجلى أهمية الدستور في تنزيله وتطبيقه، فقد تكون للدولة أحسن الدساتير وتكون دكتاتورية، وتكون بلا دستور مكتوب وتكون من أبرز الديمقراطيات، لكن ليس هذا فقط.
أضف المرتكز الثالث، وهو التحالف الموضوعي بين القصر والإسلاميين المعتدلين، القصر يتنازل عن بعض صلاحياته في انتظار مرور الموجة، والإسلاميون الذين كانوا بين ثلاثة خيارات: الانضمام إلى حركة 20 فبراير الشبابية الاحتجاجية، مع ما يعنيه ذلك من خطورة على وضع البلد. خيار الخنوع والخضوع، ما يعني بقاء الوضع على حاله. المطالبة بالإصلاح في ظل استقرار النظام القائم، وهو خيار منسجم مع مواقف الحزب ومواقف قادته حتى قبل الربيع العربي. وفي هذا الخصوص، نرجع إلى حوار لزعيم الحزب، عبد الإله بنكيران، مع قناة الحوار، عندما أوضح دعمه النظام الملكي الأصيل بقوله مستنكرا "أنخرب بيوتنا بأيدينا؟"... تبنى الحزب، إذن، هذا الخيار، ومن ثمة قام هذا التحالف.
ويجدر التذكير هنا بأن موقف حزب العدالة والتنمية هذا أصيل مبني على قناعات عميقة، لا
تتأثر بالحسابات السياسية، لكنه موقف مبني، في الوقت نفسه، على أطروحة النضال الديمقراطي التي تبناها الحزب في مؤتمره الخامس سنة 2008، وبعدها أطروحة البناء الديمقراطي، وهو يترأس الحكومة. وهي أطروحة متقدمة في مضامينها، جعلت من حزب العدالة والتنمية حزبا سياسيا وطنيا ومدنيا، مثل باقي الأحزاب السياسية الأخرى، مع تميز واحد، هو مرجعيته الإسلامية.
مرّ الربيع العربي، وأصبح خريفا في بلدانٍ عصف بها، ونجحت الثورة المضادة في بلدان أخرى، وانتظر الجميع سقوط حكومة بنكيران، لكنها صمدت، على الرغم من خروج حزب الاستقلال، وتشكلت الحكومة الثانية في تحالف جمع حزب العدالة والتنمية وأكثر الأحزاب قربا من القصر الملكي، فكان هذا تعبيراً عن استمرارية التجربة، بشكل أو بآخر، وباستمرار التحالف المذكور.
انتظر المراقبون أفول نجم عبد الإله بنكيران، جرّاء بعض القرارات غير الشعبية التي وضعت اقتصاد البلاد على المسار الصحيح، وكان بعضهم يقول: لنتركه كما يقول المثل "أعطني فمك آكل به الشوك"، لكن الانتخابات البلدية جاءت في سبتمبر/ أيلول 2015، وحصد حزب العدالة والتنمية كبريات الحواضر المغربية، ولم يتنازل هذه المرة عن مكاسبه، كما سبق له في المرات السابقة، وحصل على عمودية المدن الكبرى، الدار البيضاء، الرباط، سلا، فاس مراكش طنجة أكادير، وغيرها أكثر.
أعطت نتائج الانتخابات البلدية (لم يفرج عنها بالتفصيل إلا بعد مطالبة رئيس الحكومة بذلك) لوزارة الداخلية ولمهندسيها فرصة إسقاطها على الدوائر النيابية البرلمانية، وعوض القيام بعملية سبر الآراء، كان لها نتائج الانتخابات التشريعية مسبقا، وتقرّر تقليص حجم حزب العدالة والتنمية بكل الطرق، ومنها خفض العتبة من 6% إلى 3%، دفع بعض زعماء الأحزاب إلى الحديث عن الحزب الأغلبي، عدا بعض الأساليب المخزنية القديمة التي شوهت صورة المغرب داخليا وخارجيا.
جاءت الحملة الانتخابية، وتحول زعيم "العدالة والتنمية" إلى ظاهرة شعبية، لم تزعج فقط خصومه السياسيين، بل أزعجت أيضا آخرين كثيرين، خصوصا أن بنكيران كان يتحول إلى أكبر معارض في خطاباته الجماهيرية، حيث أمسك العصا من الوسط، بينما جُعِل رئيس الحكومة حتى في الدول الديمقراطية ذات النظام الرئاسي ليقوم بمقام "منصهر الكهرباء" الذي هو بمثابة صمام الأمان، لكن بنكيران لم ينصهر وحده، وازداد شعبية وإزعاجا.
مرّت الانتخابات، وتنامت شعبية حزب العدالة والتنمية الذي فاز بـ 125 مقعدا في مقابل 107 في العام 2011، وطلع زعيم الحزب بتصريحات تفيد بأن الحزب سيُكوِّن الحكومة هذه المرة طبقا للنتائج الشعبية التي حصل عليها. وهنا وقع الانسداد السياسي، أو ما اصطلح عليه بحالة "البلوكاج"، وتم فرض الأحزاب التي ستدخل الحكومة على بنكيران، ومنها "الاتحاد الاشتراكي" الذي طالب برئاسة البرلمان، وهو الذي لم يحصل إلا على عشرين مقعدا، قرار بالإضعاف من الداخل، معارضة داخل الحكومة ومعارضة خارجها.
خلاصة هذا الانسداد هي لعبة لي الذراع، ذراعي بنكيران وحزب العدالة والتنمية في رسالة مفادها: لئن حصلتم على الأغلبية البسيطة فليس في مقدوركم تكوين حكومة إلا بإشارة من أعلى، لن تأتي إلا بالشروط التي أُبلِغتُم بها، ومنها دخول "الاتحاد الاشتراكي" ليس برغبتكم أنتم، ولكن برغبة من بيده الأمر.
أعفي بنكيران، وعيّن الملك محمد السادس، في خطوة ذكية تحترم مضامين الدستور وروحه،
الرجل الثاني في الحزب الدكتور سعد الدين العثماني، لتشكيل الحكومة، وهو العالم الفقيه المقاصدي، والطبيب النفسي الذي لن يتردّد في استعمال تكوينه المزدوج، للوصول إلى المراد، وهو تشكيل الحكومة في الأجل المطلوب.
السياسة مد وجزر، والإسلاميون في انتكاس في كل البلدان العربية إلا المغرب (طبيعة الإسلاميين المغاربة تختلف فهما وتطبيقا للمرجعية التي تجمعهم بغيرهم)، والسؤال المطروح كيف لإسلاميي المغرب البقاء في الحكم، في ظل السياق السياسي العالمي والعربي، وفي ظل التراجع الذي عرفته البلدان العربية الأخرى. وجاء الجواب بإشارة من عند الملك، عند تعيين العثماني يوما قبل انعقاد برلمان حزبه الذي جاء برسالة من عند الملك تقول "الملك يعتبر حزب العدالة والتنمية حزبا وطنيا، ويبلغ سلامه إلى أعضاء الحزب، ويريد استمرارية التجربة مع حكومة يرأسها الحزب نفسه"، وأن الملك اختار هذا من بين خيارات أخرى (هذا ما ورد في نص بيان الديوان الملكي)، ثم إنه خيار يحترم الدستور، يظهر الحاكم الفعلي للمغرب، ويطمئن الداخل والخارج.
اجتمع المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية (برلمان الحزب) ولم يكن له إلا خيار عقلاني واحد، وهو الاستجابة للمطلب الملكي، كيف لا وقرار الخروج إلى المعارضة لم يكن ليفسّر إلا قرار تمرّد ورغبة في الصراع مع المؤسسة الملكية، وهذا ما لا يريده الحزب، خصوصا أنه ما زال محل توجس والتوجس متبادل.
في انتظار إعلان الحكومة، والتي لن تخرج عن كونها حكومة تراجعات، في المسار الديمقراطي، في المناصب والحقائب بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، وطبعا في احترام النتائج. وتترك هذه التراجعات كلها حزب العدالة والتنمية على المحك، وهو على أبواب مؤتمره العام الذي كان يعد لتغيير قانونه للسماح لعبدالإله بنكيران بولاية ثالثة، لكنه وقد ترك رئاسة الحكومة: هل سيترك أيضا الأمانة العامة؟
تراجعات تطرح بإلحاح الجواب على السؤال التالي، هل عيّن الملك أيضا سعد الدين العثماني أمينا عاما للحزب؟ لكنها، في الأخير، تراجعات لا تكسر بيت الاستثناء المغربي، على الرغم من أنها تتركه هشا تتساقط لبناته، واحدة تلو الأخرى، في انتظار الخطوات التالية.
أضف المرتكز الثالث، وهو التحالف الموضوعي بين القصر والإسلاميين المعتدلين، القصر يتنازل عن بعض صلاحياته في انتظار مرور الموجة، والإسلاميون الذين كانوا بين ثلاثة خيارات: الانضمام إلى حركة 20 فبراير الشبابية الاحتجاجية، مع ما يعنيه ذلك من خطورة على وضع البلد. خيار الخنوع والخضوع، ما يعني بقاء الوضع على حاله. المطالبة بالإصلاح في ظل استقرار النظام القائم، وهو خيار منسجم مع مواقف الحزب ومواقف قادته حتى قبل الربيع العربي. وفي هذا الخصوص، نرجع إلى حوار لزعيم الحزب، عبد الإله بنكيران، مع قناة الحوار، عندما أوضح دعمه النظام الملكي الأصيل بقوله مستنكرا "أنخرب بيوتنا بأيدينا؟"... تبنى الحزب، إذن، هذا الخيار، ومن ثمة قام هذا التحالف.
ويجدر التذكير هنا بأن موقف حزب العدالة والتنمية هذا أصيل مبني على قناعات عميقة، لا
مرّ الربيع العربي، وأصبح خريفا في بلدانٍ عصف بها، ونجحت الثورة المضادة في بلدان أخرى، وانتظر الجميع سقوط حكومة بنكيران، لكنها صمدت، على الرغم من خروج حزب الاستقلال، وتشكلت الحكومة الثانية في تحالف جمع حزب العدالة والتنمية وأكثر الأحزاب قربا من القصر الملكي، فكان هذا تعبيراً عن استمرارية التجربة، بشكل أو بآخر، وباستمرار التحالف المذكور.
انتظر المراقبون أفول نجم عبد الإله بنكيران، جرّاء بعض القرارات غير الشعبية التي وضعت اقتصاد البلاد على المسار الصحيح، وكان بعضهم يقول: لنتركه كما يقول المثل "أعطني فمك آكل به الشوك"، لكن الانتخابات البلدية جاءت في سبتمبر/ أيلول 2015، وحصد حزب العدالة والتنمية كبريات الحواضر المغربية، ولم يتنازل هذه المرة عن مكاسبه، كما سبق له في المرات السابقة، وحصل على عمودية المدن الكبرى، الدار البيضاء، الرباط، سلا، فاس مراكش طنجة أكادير، وغيرها أكثر.
أعطت نتائج الانتخابات البلدية (لم يفرج عنها بالتفصيل إلا بعد مطالبة رئيس الحكومة بذلك) لوزارة الداخلية ولمهندسيها فرصة إسقاطها على الدوائر النيابية البرلمانية، وعوض القيام بعملية سبر الآراء، كان لها نتائج الانتخابات التشريعية مسبقا، وتقرّر تقليص حجم حزب العدالة والتنمية بكل الطرق، ومنها خفض العتبة من 6% إلى 3%، دفع بعض زعماء الأحزاب إلى الحديث عن الحزب الأغلبي، عدا بعض الأساليب المخزنية القديمة التي شوهت صورة المغرب داخليا وخارجيا.
جاءت الحملة الانتخابية، وتحول زعيم "العدالة والتنمية" إلى ظاهرة شعبية، لم تزعج فقط خصومه السياسيين، بل أزعجت أيضا آخرين كثيرين، خصوصا أن بنكيران كان يتحول إلى أكبر معارض في خطاباته الجماهيرية، حيث أمسك العصا من الوسط، بينما جُعِل رئيس الحكومة حتى في الدول الديمقراطية ذات النظام الرئاسي ليقوم بمقام "منصهر الكهرباء" الذي هو بمثابة صمام الأمان، لكن بنكيران لم ينصهر وحده، وازداد شعبية وإزعاجا.
مرّت الانتخابات، وتنامت شعبية حزب العدالة والتنمية الذي فاز بـ 125 مقعدا في مقابل 107 في العام 2011، وطلع زعيم الحزب بتصريحات تفيد بأن الحزب سيُكوِّن الحكومة هذه المرة طبقا للنتائج الشعبية التي حصل عليها. وهنا وقع الانسداد السياسي، أو ما اصطلح عليه بحالة "البلوكاج"، وتم فرض الأحزاب التي ستدخل الحكومة على بنكيران، ومنها "الاتحاد الاشتراكي" الذي طالب برئاسة البرلمان، وهو الذي لم يحصل إلا على عشرين مقعدا، قرار بالإضعاف من الداخل، معارضة داخل الحكومة ومعارضة خارجها.
خلاصة هذا الانسداد هي لعبة لي الذراع، ذراعي بنكيران وحزب العدالة والتنمية في رسالة مفادها: لئن حصلتم على الأغلبية البسيطة فليس في مقدوركم تكوين حكومة إلا بإشارة من أعلى، لن تأتي إلا بالشروط التي أُبلِغتُم بها، ومنها دخول "الاتحاد الاشتراكي" ليس برغبتكم أنتم، ولكن برغبة من بيده الأمر.
أعفي بنكيران، وعيّن الملك محمد السادس، في خطوة ذكية تحترم مضامين الدستور وروحه،
السياسة مد وجزر، والإسلاميون في انتكاس في كل البلدان العربية إلا المغرب (طبيعة الإسلاميين المغاربة تختلف فهما وتطبيقا للمرجعية التي تجمعهم بغيرهم)، والسؤال المطروح كيف لإسلاميي المغرب البقاء في الحكم، في ظل السياق السياسي العالمي والعربي، وفي ظل التراجع الذي عرفته البلدان العربية الأخرى. وجاء الجواب بإشارة من عند الملك، عند تعيين العثماني يوما قبل انعقاد برلمان حزبه الذي جاء برسالة من عند الملك تقول "الملك يعتبر حزب العدالة والتنمية حزبا وطنيا، ويبلغ سلامه إلى أعضاء الحزب، ويريد استمرارية التجربة مع حكومة يرأسها الحزب نفسه"، وأن الملك اختار هذا من بين خيارات أخرى (هذا ما ورد في نص بيان الديوان الملكي)، ثم إنه خيار يحترم الدستور، يظهر الحاكم الفعلي للمغرب، ويطمئن الداخل والخارج.
اجتمع المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية (برلمان الحزب) ولم يكن له إلا خيار عقلاني واحد، وهو الاستجابة للمطلب الملكي، كيف لا وقرار الخروج إلى المعارضة لم يكن ليفسّر إلا قرار تمرّد ورغبة في الصراع مع المؤسسة الملكية، وهذا ما لا يريده الحزب، خصوصا أنه ما زال محل توجس والتوجس متبادل.
في انتظار إعلان الحكومة، والتي لن تخرج عن كونها حكومة تراجعات، في المسار الديمقراطي، في المناصب والحقائب بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، وطبعا في احترام النتائج. وتترك هذه التراجعات كلها حزب العدالة والتنمية على المحك، وهو على أبواب مؤتمره العام الذي كان يعد لتغيير قانونه للسماح لعبدالإله بنكيران بولاية ثالثة، لكنه وقد ترك رئاسة الحكومة: هل سيترك أيضا الأمانة العامة؟
تراجعات تطرح بإلحاح الجواب على السؤال التالي، هل عيّن الملك أيضا سعد الدين العثماني أمينا عاما للحزب؟ لكنها، في الأخير، تراجعات لا تكسر بيت الاستثناء المغربي، على الرغم من أنها تتركه هشا تتساقط لبناته، واحدة تلو الأخرى، في انتظار الخطوات التالية.
مقالات أخرى
07 سبتمبر 2024
14 يوليو 2024
30 يونيو 2024