الاستثمارات العربيّة وعراقيلها في الجزائر

24 ابريل 2015
+ الخط -
كلما استجدّ حديث عن الاستثمارات العربية في الجزائر في الصحافة المحلية، تعود نغمة "اللوبي المستغرب" إلى الظهور، ثانية، بل ووجدت ألسن في ذلك ضالتها للتحدث عن مؤامرة تقودها الإدارة الجزائرية الخفية، لعرقلة أي تقارب عربي جزائري في مجال الاستثمارات، لتقف بالتالي ضد أي ارتقاء في الحديث العربي من مجال العواطف إلى كلام الأرقام والمنافع الاقتصادية الحقيقية المتبادلة.. قد يبدو مثل هذا الحديث عن الإدارة الخفية، أوالحقيقية كما يسميها بعضهم، بالنظر إلى لما لها من فعل حقيقي في مفاصل الدولة الجزائرية، قد يبدو مبالغاً فيه، أو لعله لدى بعضهم شيء من شوفينية بعض المعربين في صراعهم مع الفرنكفونيين الذين ما زال في أذهانهم بقية من التبعية للفكر الاستعماري، في بلد لم ينتصر للغته بعد، وما زالت دواليب إدارته واقتصاده تسير بالفرنسية فقط، وما زالت الإدارة رهينة لوبيات مصالح متغلغلة في كل دواليب الدولة.
عاد هذا الحديث إلى البروز، مع وضع رئيسي الوزراء القطري والجزائري حجر الأساس لمركب الحديد والصلب في منطقة بلارة في ولاية جيجيل، شرق الجزائر، وهو مشروع قديم قضى 33 عاماً حبيس أدراج الإدارة، تزاحمت عليه أيدٍ عديدة، فكانت البداية سنة 1982 مع مشروع كويتي، أسال حبراً كثيراً يومها، ليجف الحبر تاركاً غصة في حلق من تفاءل يومها عن بداية استثمار عربي في الجزائر. بعد ذلك، أدلى المصريون بدلوهم في قعر المشروع نفسه، لينتهي بهم الأمر، في النهاية، بالفوز بمغادرة المكان من دون تورط في الخسارة، ليبقى مشروع "بلارة" للحديد والصلب حديث التمنيات وبرتوكولات الديبلوماسية، وليطل القطريون منذ ثلاث سنوات وفي جعبتهم استثمار كبير لتطوير المشروع والفوز به. مضت الأشهر طويلة، واعتقد متتبعو الاقتصاد أن مشروع "بلارة" سقط في الماء الآسن لتكلّس الإدارة الجزائرية وتثاقلها. لكنه عاد إلى تصدّر الأضواء والعناوين، وخصوصاً أنه يخطط لتوظيف أكثر من 3000 عامل هم في أمسّ الحاجة إلى مصدر رزق.
لم تأتِ الإدارة الجزائرية بجديد في مجال الالتفاف على الملفات، والبطء في إنجاز المعاملات، بل والتواطؤ في تحضير المقالب، لتكسير مشاريع عربية، إذ يذكر الإعلامي المصري، حمدي قنديل، مثلاً، في كتابه "عشت مرتين"، أنه أسّس في عام 1986 برفقة شركاء كويتيين، بينهم محمد السنعوسي وجواد بوخمسين، شركة في الجزائر للإنتاج الصوتي والمرئي، بالمشاركة مع الحكومة الجزائرية، للمساهمة في معركة التعريب التي كانت تحتاج إلى ذراع إعلامية قوية سمّوها "تيبازا". وهي أول شركة في الجزائر ذات رأسمال مختلط مع أجانب، بل مع القطاع الخاص قاطبة، جزائرياً كان أم أجنبياً، إلا أن الشركة لم تتقدم خطوة، لعدة أسباب، أهمها يرجع إلى قيود فرضتها السلطات الجزائرية والتعقيدات في النظم الإدارية في البلاد التي كان يبدو، أحياناً، أنها متعمّدة، يقول قنديل.
وإذا عرفنا أن رئاسة الجانب الجزائري في مجلس إدارة الشركة كان قد أوكل للعقيد حسين السنوسي، مدير مجمع رياض الفتح، يومها، والذي لعب والتيار الذي يسانده دوراً ريادياً في تكريس تغريب الجزائر، وفرض أغاني "الراي" عنوة على مستمعي الإذاعة الوطنية الرسمية، وفرض العامية الجزائرية بدل اللغة العربية الفصحى على منشطي الإذاعة، إذا عرفنا ذلك سنعرف حينها ماهية المشروع الذي كان وراء مثل هذه القرارات، وعرقلة أي مشروع يخدم التقارب الجزائري العربي، وسندرك، بيسر، البون الشاسع الذي كان، وما زال، يفصل بين أدبيات الدولة الجزائرية في خدمة التعريب والتقارب العربي، والواقع الذي كانت تفرضه ولا تزال لوبيات متغلغلة في عمق الإدارة الفاعلة، والتي لا تترك لمثل هذا التقارب أي فرصة للتجسيد على أرض الواقع.

حديث آخر لا يقل أهمية ممّا كتبه حمدي قنديل رواه لي مدير غرفة التجارة والصناعة في مدينة العين في الإمارات في سنة 2003، أقر لي الرجل بأنه غير مطمئن لزيارة قام بها للجزائر، والتقى حينها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ورئيس الوزراء يومها، علي بن فليس، وسمع منهما كلاماً معسولاً عن التسهيلات المخصصة للاستثمارات العربية في الجزائر، وأن الأبواب مفتوحة على مصراعيها للإخوة العرب، إن هم أرادوا استثمار فائض أموالهم في الجزائر. وكان مصدر قلق الرجل البون الشاسع بين كلام الرئيس ورئيس وزرائه وبين ما لقيه من صد من الإدارة وعراقيل من دواليبها، وممّا تراءى لمعاونيه من طلبات "فساد" كثيرة، يسعى إلى تقديمها أعوان الإدارة، ومسؤولون صغار خدمة للمصلحة الذاتية، قبل مصلحة الاستثمار أو الوطن.
تتحدث الإدارة الجزائرية عن أن تخوفها من الاستثمار الأجنبي المباشر، أدى بها إلى اللجوء إلى تغيير قانون الاستثمار، بعد تسجيل عدة فضائح في عمليات تحويل الأرباح إلى الخارج، وتهريب العملة الصعبة، ويعد هذا الكلام بمثابة حق في وسط كومة من الأباطيل. أليس الفساد الإداري هو من قام بتسهيل هذه التحويلات وتهريب العملة بطرق غير قانونية؟ أليس فشل المسؤولين وتواطؤهم سبباً مباشراً في فشل الاستثمارات العربية وغيرها في الجزائر؟ إضافة إلى عوامل مكبلة أخرى، منها نقص المعلومة الاقتصادية، وصعوبة الحصول على التراخيص، وثقل الجهاز الإداري، وعدم استقرار التشريع الجزائري، وارتفاع حجم الضرائب، إلى جانب تخلّف الجهاز المصرفي. كيف يمكننا، إذن، أن نتكلم عن استثمار، عربياً أو أجنبياً، في ظل معطيات غير اقتصادية بالمرة.. إضافة إلى الفجوات القانونية التي لعبت على تناقضاتها بعض الشركات، ومنها إقدام شركة "أوراسكوم تيلكوم"، لصاحبها المصري نجيب ساويرس، على بيع مصنع الإسمنت بمحافظة المسيلة في شرق الجزائر لمؤسسة "لافارج" الفرنسية، من دون علم الحكومة الجزائرية، أو بيع شركة "جيزي للاتصالات" إلى شركة روسية من وراء ظهر الحكومة الجزائرية. وهي من الأسباب التي أدت إلى فرض قانون الشفعة الذي يعطي الحق للحكومة الجزائرية في شراء أسهم أي استثمارات، يرغب صاحبها في بيعها، أو التنازل عنها، ما أدى إلى تغيير قانون الاستثمار، بحيث لا يصبح من حق المستثمرين الأجانب امتلاك سوى 49% من أي استثمار، مع ضرورة إشراك مستثمرين جزائريين إلى جانبهم. وقد أثارت هذه التغييرات مخاوف العرب والأجانب من اقتحام السوق الجزائرية، ما أدى إلى مغادرة شركات عربية من الجزائر، وتجميد نشاطها في قطاع السياحة، والعقار، والصناعة، مثل مصنع الألومنيوم لشركتي دوبال ومبادلة الإماراتيتين، وإعمار.  
قد تنشط الحكومة الجزائرية في تسويق الاستثمار الجزائري الإماراتي الألماني في صناعة الشاحنات والسيارات العسكرية، نموذجاً لنجاح الاستثمارات العربية، لكن ذلك يبقى دون المأمول، على الرغم من كل ما تقول عنه الإدارة من جهود مبذولة لتحسين مناخ الاستثمار في الجزائر.
سؤال أخير، هل ستُرعب المشاريع القطرية "أعداء" الاستثمارات العربية، فعلاً، كما يقول صحافي جزائري يؤكد أن مشروع "بلارة للحديد والصلب" كان قد تعرّض لـ"حواجز مزيفة" سنوات طويلة من أطراف يزعجها الاستثمار القطري والعربي عموماً في الجزائر؟ وهل ستكون هذه الخطوة في الطريق الصحيح، أم ستبقى مجرد تجربة تضاف إلى تجارب سابقة؟











خليل بن الدين
خليل بن الدين
إعلامي جزائري، من مواليد 1962، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً في قناة الجزيرة.