فجر السابع عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، هزت صرخات أهالي أم الحيران سماء النقب، بعد أن أردت صلية من العيارات النارية المتتالية المربي يعقوب أبو القيعان، حينما كان يقود مركبته بعيدًا عن بيته الذي قررت سلطات الاحتلال هدمه، ضمن مسلسل التهجير للعرب في النقب.
وأدت الجريمة البشعة إلى حالة غليان في الداخل الفلسطيني كله، وتجمهر الناس وهرعهم إلى قرية أم الحيران، حيث كانت قوات معززة من شرطة الاحتلال، يفوق عددها المئات، قد حاصرت القرية منذ ساعات الليل، بعد فشل محاولات الحكومة الإسرائيلية إقناع أهالي أم الحيران بمغادرتها والانتقال إلى قرية حورة، تمهيدًا لإقامة مستوطنة يهودية جديدة على أراضيهم تحمل الاسم نفسه "حيران".
وحاولت الشرطة الإسرائيلية ووسائل الإعلام المجندة تحميل الشهيد يعقوب أبو القيعان مسؤولية قتله، بادعاء أنه حاول دهس شرطي، ثم الادعاء بعد ساعات من جريمة قتله أنه كان من أنصار "داعش"، وكلها ادعاءات سرعان ما تبدّى كذبها، بعد أن كشفت صور لشريط بثته كاميرا "الجزيرة"، أن الشهيد لم يحاول دهس أفراد الشرطة، وأنه خلافًا لادعاءات الشرطة الإسرائيلية؛ فقد قاد سيارته بأنوارها المضاءة، وأن سيارته انحرفت بعد أن أصيب برصاصتين، إحداهما في ركبته، جعلته يفقد السيطرة على المركبة والانحراف باتجاه رتل من عناصر الشرطة الذين كانوا قد ضربوا حصارًا على القرية.
وقد أعلن، أمس، أن قسم التحقيقات في وزارة العدل، المسؤول عن التحقيق مع عناصر الشرطة، قرر إغلاق ملف استشهاد يعقوب أبو القيعان، وعدم تقديم أية لوائح اتهام ضد عناصر الشرطة، مما يعني تشريعًا للقتل، وهو السيناريو نفسه الذي كان وقع قبل 17 عامًا في أحداث هبّة القدس والأقصى، عندما قتلت الشرطة الإسرائيلية 13 شهيدًا مدعية أنهم هددوا حياة الشرطيين، لكن سرعان ما أثبتت شهادات شهود العيان والكاميرات والصور استخدام قناصة محترفين في إرداء الشهداء من مسافات بعيدة، وخلصت لجنة تحقيق رسمية، عُرفت باسم "لجنة أور"، إلى أن الشرطة الإسرائيلية تتعامل بعداء واضح مع العرب في الداخل، وبنفسية جاهزة لإطلاق النار في حال واجهتهم في المظاهرات.
لكن قضية الشهيد أبو القيعان تكتسب زخمًا آخر، لارتباطها الوثيق بمحاولات حكومة إسرائيل، ضمن مشروع تهويد النقب وسلب أراضي الفلسطينيين فيه، عبر الادعاء بأنها أرض متنازع عليها بين أهالي النقب والدولة، طمعًا في الاستيلاء على مليون دونم من أراضي النقب.
وتدّعي حكومة الاحتلال أن أهالي النقب يقيمون على أرض ليست لهم، وأنها تريد تنظيم وجودهم في بلدات رسمية معترف بها، في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة الاعتراف بوجود أكثر من 30 قرية قائمة في النقب قبل قيام دولة الاحتلال، ويرفض أهلها الانتقال منها للسكن في بلدات جديدة يريد الاحتلال إقامتها لهم على جزء صغير من الأراضي، بعد مصادرة أراضيهم الواسعة.
وتشكل حالة أم الحيران مثالًا صارخًا على هذا المخطط، لا سيما وأن أهالي القرية، وخلافًا لادعاءات الاحتلال، كان تم نقلهم بعد تشريدهم من قريتهم الأصلية، غربي النقب، إلى موقع أم الحيران الحالي، وفق تعليمات وأوامر واضحة من الحاكم العسكري الإسرائيلي. وحاولت الحكومة الإسرائيلية، أثناء حملة الهدم، في أم الحيران الادعاء بأنها استنفذت الطرق القانونية، وأن المحكمة أمرت بإزالة بيوت القرية بادعاء أنها غير قانونية، مع الزعم بأنه سيكون بمقدور أهالي أم الحيران شراء قسائم أرض والعيش في المستوطنة اليهودية التي ستقام في المكان نفسه تحت مسمى حيران، ومخصصة لليهود.
وقد كُشف، أمس، عن وثيقة رسمية أعدتها لجنة تأسيس المستوطنة الجديدة، أن الشرط الأول للقبول في مستوطنة "حيران" هو أن يكون المتقدم يهوديًّا، بل ومتدينًا يحترم شعائر وفرائض التوراة، وهو ما نسف الادعاءات الإسرائيلية عن أن المستوطنة ستكون مفتوحة أمام الجميع.
في المقابل، تتعرض قرية أم الحيران، لغاية اليوم، إلى حملات مداهمة متواصلة من قبل الشرطة الإسرائيلية، التي ترافق حفارات وجرافات تعمل على تجريف أراضي القرية لإقامة بنى تحتية للمستوطنة اليهودية الجديدة.
وأكدت اللجنة المحلية في القرية، في بيان نشره الناطق باسمها، رائد أبو القيعان، في هذا السياق، أنه خلافًا لكل ادعاءات وزير الزراعة الإسرائيلي، أوري أرئيل، المسؤول عن مشروع تهويد النقب، تحت مسمى "مشروع توطين البدو"، فإن أهالي القرية لم يوافقوا على الخروج منها والنزوح، ولم يتوصلوا إلى أي تسوية مع الحكومة بهذا الخصوص.
وتشكل أم الحيران واحدة من أكثر من 30 قرية لا تعترف بها الحكومات الإسرائيلية في النقب، رغم وجودها قبل النكبة. وتحرم الحكومات الإسرائيلية سكان هذه القرى من أبسط الخدمات والحقوق الإنسانية والصحية والتعليمية، سعيًا منها للضغط على الأهالي للنزوح عن قراهم والتسليم بمشروع تجميعهم في بلدات رسمية وتسوية ملكية الأراضي، بما يسمح للحكومة بوضع يدها على نحو مليون دونم من الأراضي.