الاحتفال بالسنة الأمازيغية في الجزائر.. ماذا بعد؟

17 يناير 2019
+ الخط -
ابتهج الجزائريون بعد ترسيم الدّولة، السنة الماضية، الاحتفال برأس السنة الأمازيغية (تبدأ في 12 يناير/ كانون الثاني من كل عام)، وتمنوا أن يكون القرار مقدمة لعقد اجتماعي جديد، تعترف فيه المنظومة الحاكمة بحقوقٍ وواجباتٍ يرتقي بها رعايا البلاد إلى مصافّ المواطنة، ولو من خلال هذا الجزء من الهوية الجامعة للجزائريين والضاربة في أعماق التاريخ.
تُحلّق الدول العربية عاليا في بناء الاستبداد وضمان استمراره، بحيث إنّها تعمل على ترحيل الإشكالات الحقيقية، مثل الديمقراطية وإحلال إشكاليات أخرى محلها، مرتكزة على ما يفرّق ولا يجمع، كالنّعرات الهوياتية أو الأوتار القومية، الطائفية والعرقية، والهدف بيّن في أنّ ذلك يرمي إلى قلب منظومة أولويات أجندة التغيير من الاهتمام باللباب إلى الاهتمام بالقشور.
بالنّسبة إلى الجزائر، لم يغير هذا التّرسيم من الأعراف والتقاليد شيئا، حيث دأبت العائلات الجزائرية على الاحتفال بالمناسبة (بداية السنة الأمازيغية) عبر التاريخ، ولم تنتظر ترسيم الدولة له، لتبتهج بالمناسبة. كما أنه لم يكن من بين المطالب التي رفعوها، بل ارتفعت أصواتهم لترسيم التغيير، تكريم الإنسان، احترام الاختيار الحر، كما طالبوا بالتحول الحقيقي قيميا وإجرائيا نحو الديمقراطية.
من ناحية أخرى، لماذا يتمّ كل هذا الاحتفاء بجزءٍ من الهويّة، في حين أنه كان مطلبا من جملة مطالب، تقدّم بها المجتمع المدني، لإقرار تركيبة هوياتية كاملة جامعة، تعيد اللُّحمة لبلاد كاد الانسجام المجتمعي فيها أن يتهاوى، بفعل سياساتٍ غير ناجعة على كلّ المستويات، أوردت الجزائر الفشل متعدّد الأبعاد والأشكال؟ يستوجب الجواب على هذا السؤال الغوص 
بعيدا في المسألة الأمازيغية، وكيف أنّها كانت، دائما، مقترنةً بمطلب الهوية الجامعة، من ناحية، وبمطلب أكبر وأشمل، وهو إحداث التغيير وإحلال الديمقراطية في تسيير السياسة العامة للبلاد.
كان للمسألة الأمازيغية حضور قبل الثورة التحريرية الكبرى، لكن رجال الثورة عرفوا كيف يصهرونها في بوتقة الهوية الوطنية الجامعة، ليلتقي الجزائريون على هدفٍ واحدٍ، تم تضمينه في بيان الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني، تاريخ انطلاق الثورة، وهو العمل على تشكيل دولة جزائرية في إطار المبادئ الديمقراطية، وضمن مرجعية الإسلام. وعلى ذلك جرت الثورة، وضحى الجزائريون بالنفس والنفيس، لدحر العدو خارج الوطن بعد قرنٍ ونيف من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.
بعد الاستقلال، بدأت الإشكالية تطرح نفسها بإلحاح، ولكن بصفتها جزءا من إشكالية عامة، تتضمن تسيير الشأن العام للبلاد، حيث انخرط جموع الجزائريين في اقتراح مقارباتٍ للحكم بدون إقصاء، وفي إطار الهوية الجامعة التي عرف التاريخيون من قادة الحركة الثورية للجزائر كيف يضعون ثوابتها التي لم تكن، يوما ما، محلّ نقاش، بل انصب الاهتمام، كل الاهتمام، على منهجيات بناء الدولة، بناء الاقتصاد والخروج من دائرة التخلف.
وبعد السّعي الحثيث والممنهج لمنظومة الحكم نحو إغلاق اللعبة السياسية برمتها، بدأت تلك الثوابت في الانفراط، ليعلو صوتها ضمن مطالباتٍ وطنيةٍ بالإصلاح، وهو ما جرّ إلى أحداث منطقة القبائل في أبريل/ نيسان عــام 1980. وتواصل زخم تلك المطالبات، عاليا، إلى أن بلغ ذروته في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1988، وانفجر ما يعرف بـــ"الربيع الديمقراطي الجزائري"، ولم يكن، على غرار موجة ما سُمّي الرّبيع العربي، ربيعا حقا، لأنه قاد إلى عشرية حمراء، ثم إلى ربيع أسود، تلاه، مباشرة، في المنطقة نفسها، مع بداية الألفية الجديدة، تولّد عنها سعي للتخلّي عن منظومة الأحزاب السياسية، غير المجدية في التعامل مع مسار التغيير والمطالبات السياسية، والاستعاضة عنها بحركاتٍ ولدت من رحم المجتمع المدني، ومتضمّنة لمطالب التّغيير والإصلاح العميق للسياسة العامة، مع إرفاقها، سعيا إلى إثبات القطيعة مع المنظومة الحاكمة، بمسلكية العزوف عن المشاركة في الانتخابات، أيّا كانت، رئاسية أو برلمانية أو محلية، بالنظر إلى أنها غير ذات فائدة لإحداث طفرة تشاركية وإصلاحية، ولو بجرعاتٍ بطيئةٍ وتدرّجية.
إذا جئنا إلى تحليل المسلكية الرّسمية لمنظومة الحكم ومسار ردّ الفعل من الجزائريين، نصل إلى نتيجة مفادها غياب الثقافة السياسية التّغييرية لدى السّلطة، ما تولدّ عنه اقتناع بوجوب اتّخاذ مساراتٍ للتغيير، تليق بالموقف، وتضمن مقاربة شكلية سلمية ومضمونا يحاول تفكيك بنية الاستبداد، لبنة تلو لبنة، وصولا، يوما ما، إلى فرض توازن في اللعبة السياسية، تؤدي إلى القبول بمسار التحول التدرّجي، وبتوافق بين بُنى المجتمع المختلفة.
طبعا، لا نرى في تلك الإستراتيجية أي وجودٍ لمطالب متّصلة بالهوية، ذلك أن ثمّة اتفاقا
 مجتمعيا، في الجزائر، على ثوابت، إنْ في الدين (الإسلام)، اللّغات (العربية والأمازيغية)، وإنْ في الأصول الثقافية، والتي تعترف بانصهار مجتمعي ضاربٍ في أعماق التاريخ، لم يصبح من الفائدة البحث عن كنه ما يتضمّنه، ذلك أنّ الهدف الأولوي هو الخروج بالبلاد من دائرة الرّيع، الاستبداد، والقرار الموجّه والمستقطب و التوجه صوب الدولة التشاركية لتفكيك بنيان الاستبداد، وإحلال بناء جديد محله، يمنح الجزائر الذهاب نحو الجمهورية الثانية وفق تراتبية: المجلس التّأسيسي، تبنّي دستور جديد، انتخاب المؤسّسات، ثم إقرار المواطنة الحقّة تحت راية ثوابت جامعة لكل الجزائريين.
هذا هو المخرج من الاهتمام بالقشور الذي يريد بعضهم الإصرار عليه بإقرار مثل هذا التّرسيم للاحتفال ببداية العام الأمازيغي، في حين أن اللب هو تفكيك الاستبداد، وبناء نموذج جديد للتغيير، يلغي من أجندته مثل هذه الأمور التي تم الاتفاق بشأنها منذ اندلاع ثورة الجزائر التي شهدت انصهارا مجتمعيا، توصل إلى دحر الاستعمار الاستيطاني. وينتظر، الآن، بناء نموذج للتغيير الحقيقي الموصل إلى الربيع الذي لم نعش في ظله، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على اندلاعه في الجزائر.
هناك مثل في الجزائر يسأل ما إذا كان المرء العاري من لباسه يحتاج إلى خاتم أم إلى ملابس، وهو مثل يليق بما نراه ماثلا أمامنا، الآن من مداراة المسائل الأولوية والاكتفاء بقشور لا تغني من جوع ولا تسمح بإحداث التغيير. إلى متى نبقى نفكّر التفكير السطحي، من دون الغوص في المسائل الحقيقية، والذهاب إلى ما نحتاجه حقا؟ ليس من مجيب على السؤال، إذا استمر بعضهم يكتفي بتلك القشور، ويرضى بها، وهو يظنّ أنها هويّته، وأنّ ذلك مسار استطاع إرضاخ السّلطة أو إقناعها بالقبول به، بنضاله وتضحياته. وإنّ غدا لناظره لقريب.