13 نوفمبر 2024
الاحتجاج الناعم
أعادت الأحداث التي شهدها الأردن أخيرا، وحدث حملة المقاطعة الاقتصادية التي تنخرط فيها شرائح واسعة من المجتمع المغربي، الاعتبار إلى ثقافة الاحتجاج الناعم، كرد فعل مباشر على كل أنواع القمع والضغط والتضييق التي باتت تواجه كل أنواع الاحتجاجات الشعبية منذ ثورات "الربيع العربي".
ففي التجربتين، الأردنية والمغربية، نجح المحتجون بوسائل إبداعية وسلمية في إيصال أصواتهم، وفرض إرادتهم، وبأقل التكاليف لهم ولبلديهم، ففي الأردن، نجحت المظاهرات السلمية التي نزلت إلى الشوارع بشكل حضاري وفني أيضا في أن تسقط الحكومة في أسبوع ونيف. وفي المغرب استطاع نشطاء المواقع الاجتماعية قيادة أكبر حملة مقاطعة شعبية تشهدها البلاد، منذ نحو شهرين، استهدفت ثلاثة أنواع من المواد الاستهلاكية، ودفعت وزيرا في الحكومة إلى تقديم استقالته، وما زالت تضيق الخناق على الحكومة والبرلمان، بعدما حشرتهما في زاوية ضيقة، وأفقدتهما كل أدوات المناورة التي كانت تتيح لهما الفرصة للالتفاف على مطالب الشارع أو فقط قمعها.
وعلى الرغم من اختلاف الوسائل والأدوات التي أبانت عنها الموجة الجديدة من الاحتجاجات الناعمة، فإن أسلوب الاحتجاج هذا ما هو إلا استمرار للربيع العربي الذي دشن موجة
الاحتجاجات الشعبية السلمية، والتي نجحت، في بداية الأمر، بسلميتها في تونس ومصر وليبيا وسورية والبحرين واليمن والمغرب والأردن.. قبل أن تتمكّن الجهات المعادية لتلك الثورات الشعبية من اختراقها من الداخل، وتحويلها إلى أعمال عنف وتدخلات أجنبية، وإلى حملات قمع وانقلابات، وإلى حروب أهلية أتت على الأخضر واليابس. حصل ذلك بعد أسابيع، وأحيانا بعد شهور، من التظاهر والاحتجاجات السلمية في أكثر من عاصمة عربية، قبل أن تستعيد سلطاتها مبادرة احتواء تلك الاحتجاجات، بطرق وأساليب وأدوات مختلفة، أبانت عن قدرة تلك السلطات على استيعاب الضربات، وفي الوقت نفسه، إعداد ردود أفعالها التي اختلفت من عاصمة إلى أخرى، والنتيجة كانت واحدة، هي إخماد رياح "الربيع العربي".
قيل حينها إن الحكومات تعلمت من شعوبها، وحاربتها بالأسلحة نفسها التي استعملتها تلك الشعوب في الثورة عليها، خصوصا وسائل التواصل الاجتماعي التي استعملها نشطاء الثورات كحصان طروادة، قبل أن تُتقن السلطات استعمالها وتُطور تقنياته في مراقبة حركات وسكنات الرأي العام وتتبعه داخل العالم الافتراضي. وما تبقى من أمل لدى الشعوب في التغيير، بعد سرقة ثوراتها، أجهزت عليه النتائج الكارثية التي أدّت إليها الثورات المضادة في اليمن وليبيا وسورية، ولعل هذا ما جعل السلطة في أكثر من بلد عربي تطمئن إلى أن "الربيع العربي" نَسفته الريح التي حملته.
ما يحدث اليوم أن الشعوب في الأردن والمغرب، وإلى حد ما في الجزائر، استوعبت الدرس من حكوماتها، وأبدعت وسائل احتجاج سلمية وغير مكلفة، وفي الوقت نفسه، فعالة، ولم يتم احتواؤها حتى الآن. أعادت هذه الأساليب زمام المبادرة، مرة أخرى، إلى الاحتجاج الشعبي باعتباره آليةً فعالةً لإحداث التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود. وفي الوقت نفسه، رفعت من قيمة الفعل الاحتجاجي الناعم الذي يحدث التغيير من الداخل، وبهدوء وتدريجيا. لكن هذا المتغير الجديد لم يأت اعتباطا، وإنما هو نتيجة صيرورة تطور مجتمعي، تشهده بنيات المجتمعات العربية التحتية ينحت قيمه وخطابه السياسي بعيدا عن كل وصاية من أي نوعٍ كان. وما طفا حتى الآن على السطح ما هو سوى رأس جبل الثلج، الجزء الظاهر منه هو هذه القدرة على تحويل الناس إلى قوة فاعلة. أما الجزء الخفي منه وقاعدته فهو الوعي الجماعي الذي ينمو ويتشكل ببطء، لكن بفعالية، بعيدا عن آليات الوصاية والتعبئة والتأطير التقليديين، وعن كل أساليب المواجهة غير المجدية مع السلطة السياسية، في ظل عدم توازن قوى بيّن.
ما كان هذا الوعي الجماعي ليتحقق بهذه الصورة، لولا وسائل التواصل الاجتماعي التي
ساهمت في دمقرطة وسائل الاتصال الجماهيري، وغيّرت هرمية التواصل التي لم تعد أفقيةً، وإنما عمودية، تساوي بين المتلقي وصاحب الرسالة، وأوجدت فضاءً عاما حرّا افتراضيا منفلتا عن كل أساليب الرقابة التي تجتهد الحكومات في فرضها عليه بدون جدوى. فما كان بالأمس القريب يعتبر افتراضيا أصبح اليوم واقعيا ومؤثرا في صنع الرأي العام. والفضاء العام الذي كان حتى الأمس القريب محتكرا من سلطات الوصاية بات اليوم فضاء مشتركا مفتوحا أمام صاحب كل مبادرةٍ تمتلك قوة الإقناع والقدرة على التأثير. والمعلومة التي كانت وما زالت السلاح السري لكل أنواع الحكم في العالم، وفي كل الأزمنة، تنفلت تدريجيا من كل أنواع الرقابة، وتتحول إلى ملك جماعي مشاع، يعيد الإرادة والحق في تقرير المصير إلى صاحبهما الشرعي الذي هو الشعب.
إننا أمام ثورة جديدة تتبلور داخل العالم الافتراضي، سلاحها الاحتجاج الناعم الذي يفعل فعله بهدوء وببطء، من داخل المجتمعات، لكن بفعالية وإصرارٍ يصعب احتواؤه، أو الوقوف أمامه، لأنه سيجرف كل من يعترض طريقه، إن لم يسارع إلى فتح المسالك التي تتيح له عملية العبور السلس، وبأقل الأضرار.
ففي التجربتين، الأردنية والمغربية، نجح المحتجون بوسائل إبداعية وسلمية في إيصال أصواتهم، وفرض إرادتهم، وبأقل التكاليف لهم ولبلديهم، ففي الأردن، نجحت المظاهرات السلمية التي نزلت إلى الشوارع بشكل حضاري وفني أيضا في أن تسقط الحكومة في أسبوع ونيف. وفي المغرب استطاع نشطاء المواقع الاجتماعية قيادة أكبر حملة مقاطعة شعبية تشهدها البلاد، منذ نحو شهرين، استهدفت ثلاثة أنواع من المواد الاستهلاكية، ودفعت وزيرا في الحكومة إلى تقديم استقالته، وما زالت تضيق الخناق على الحكومة والبرلمان، بعدما حشرتهما في زاوية ضيقة، وأفقدتهما كل أدوات المناورة التي كانت تتيح لهما الفرصة للالتفاف على مطالب الشارع أو فقط قمعها.
وعلى الرغم من اختلاف الوسائل والأدوات التي أبانت عنها الموجة الجديدة من الاحتجاجات الناعمة، فإن أسلوب الاحتجاج هذا ما هو إلا استمرار للربيع العربي الذي دشن موجة
قيل حينها إن الحكومات تعلمت من شعوبها، وحاربتها بالأسلحة نفسها التي استعملتها تلك الشعوب في الثورة عليها، خصوصا وسائل التواصل الاجتماعي التي استعملها نشطاء الثورات كحصان طروادة، قبل أن تُتقن السلطات استعمالها وتُطور تقنياته في مراقبة حركات وسكنات الرأي العام وتتبعه داخل العالم الافتراضي. وما تبقى من أمل لدى الشعوب في التغيير، بعد سرقة ثوراتها، أجهزت عليه النتائج الكارثية التي أدّت إليها الثورات المضادة في اليمن وليبيا وسورية، ولعل هذا ما جعل السلطة في أكثر من بلد عربي تطمئن إلى أن "الربيع العربي" نَسفته الريح التي حملته.
ما يحدث اليوم أن الشعوب في الأردن والمغرب، وإلى حد ما في الجزائر، استوعبت الدرس من حكوماتها، وأبدعت وسائل احتجاج سلمية وغير مكلفة، وفي الوقت نفسه، فعالة، ولم يتم احتواؤها حتى الآن. أعادت هذه الأساليب زمام المبادرة، مرة أخرى، إلى الاحتجاج الشعبي باعتباره آليةً فعالةً لإحداث التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود. وفي الوقت نفسه، رفعت من قيمة الفعل الاحتجاجي الناعم الذي يحدث التغيير من الداخل، وبهدوء وتدريجيا. لكن هذا المتغير الجديد لم يأت اعتباطا، وإنما هو نتيجة صيرورة تطور مجتمعي، تشهده بنيات المجتمعات العربية التحتية ينحت قيمه وخطابه السياسي بعيدا عن كل وصاية من أي نوعٍ كان. وما طفا حتى الآن على السطح ما هو سوى رأس جبل الثلج، الجزء الظاهر منه هو هذه القدرة على تحويل الناس إلى قوة فاعلة. أما الجزء الخفي منه وقاعدته فهو الوعي الجماعي الذي ينمو ويتشكل ببطء، لكن بفعالية، بعيدا عن آليات الوصاية والتعبئة والتأطير التقليديين، وعن كل أساليب المواجهة غير المجدية مع السلطة السياسية، في ظل عدم توازن قوى بيّن.
ما كان هذا الوعي الجماعي ليتحقق بهذه الصورة، لولا وسائل التواصل الاجتماعي التي
إننا أمام ثورة جديدة تتبلور داخل العالم الافتراضي، سلاحها الاحتجاج الناعم الذي يفعل فعله بهدوء وببطء، من داخل المجتمعات، لكن بفعالية وإصرارٍ يصعب احتواؤه، أو الوقوف أمامه، لأنه سيجرف كل من يعترض طريقه، إن لم يسارع إلى فتح المسالك التي تتيح له عملية العبور السلس، وبأقل الأضرار.